أنجز الأستاذان الدكتوران (ميجان الرويلي) و(سعد البازعي) عملاً تتنازعه الموسوعية والمعجمية، ويختص بالمصطلح النقدي. وقد جاء في طبعته الأولى عام (1955م) متواضعاً إلى أقصى حد، ولكنه في طبعته الثالثة (عام 2002م) أخذ وضعه الطبيعي أو كاد، واستوى على سوقه في حدود ما أراداه له، لا في حدود ما يجب أن يكون عليه.
وبين الطبعات الثلاث مسافة لا تقاس بالزمن الذي لا يتجاوز سبع سنوات، لا من حيث الكم، ولا من حيث الكيف. فالطبعة الأولى تناهز المئتي صفحة، فيما تتعدى الطبعة الثالثة الأربعمائة صفحة، والمصطلحات في الطبعة الأولى بلغت الثلاثين، فيما نيفت على السبيعن في الطبعة الثالثة.
هذا على مستوى الكم، ولكن المسافة المهمة في الكيف، متمثلة في أسلوب العرض ومنهجه ودقة المعلومة ومعرفيتها، وتعدد المرجعيات، وتنوع انتمائها الحضاري، وإن كان مع كل ذلك دون المؤمل لسببين رئيسين:
الأول: اعتماد المؤلفين على الانتقاء الذي لا يحكمه ضابط.
الثاني: مراوحة الدراسة للظواهر والقضايا والمصطلحات بين التاريخية والوصفية، والإسهاب، والاقتضاب، دونما ضابط واضح، ولما كان عملهما يتساوق مع أعمال متشابهة، فإن المؤمل منهما تدارك ما فات السابقين، والبدء من حيث انتهوا.
والمؤلفان حين مالا إلى الانتقاء، وتهيبا الاستقصاء، لم يحددا حيثيات استدعاء المصطلح المنتقى، ودواعي إهمال ما سواه، فقد يكون المصطلح المعتنى به دون المهمل في الأهمية والضرورة، والانتقاء يجعلهما في حلٍّ مما طال سلمه، وصعبت مراقيه، وندت مواطنه. وحين لا يكون هناك ضابط للمصطلح المستدعى أو المهمل يصبح العمل مجرد خواطر، مع أن تناولهما يتسم بالعملية والتقصي والمرجعية. ولو أننا طبقنا علم المصطلح وآليته كما حددها (فوستر)، لأصبح العمل مجرد مقالات تطول وتقصر عن بعض الظواهر والقضايا الثقافية الحديثة.
ولأن عملهما يرتبط بمصطلح خاص، إذ لا يتعدى الحديث عن المصطلح النقدي المعاصر، فإن من واجبهما تقصي متطلبات المشهد النقدي واحتياجات الناقد المعاصر، الذي وُعِد ومنِّي بالدليل الذي لن يصل بالمدلول إلى كل غاياته ومطالبه. ولكي أؤكد على اعتباطية الانتقاء، أبدأ من حيث ابتدءا في (باب الهمزة). فلقد تحدثا عن أدبين: (الأدب الإسلامي) و(الأدب المقارن)، فيما صرفا النظر عن آداب أهم مثل (الأدب الوجودي) و(الأدب الماركسي)، وهما قد تحدثا عن (الآخر) بوصفه نقيض (الذات)، ولم يتحدثا عن (الذاتية). وفاتهما مصطلحات كثيرة ومهمة، مثل (نظرية التلقي) وعشرات النظريات في (السرديات) مثل (الميتانصية) و(تيار الوعي).
ولما كان الزمن (زمن الرواية) كما يحلو للبعض إطلاقه، فإن الأهم تقصي الظواهر والقضايا السردية، ولقد تنبها لطغيان المناهج والآليات والمذاهب، ومن ثم تجلت عنايتهما بالمصطلحات الأسلوبية، وهو اهتمام ينم عن وعي بمتطلبات الفترة. وإذ جعلا من نفسيهما أدلاء للنقاد، ولم يتواضعا، ويكتفيا بالقراء، فإن الدليل كالرائد، لا يكذب ولا يقصر. ولما لم يكن شك في صدقهما، فإن الشك كله في التمام. وتقصيرهما عن الايصال إلى الغاية المنشودة من تقصير القادرين على التمام، إذ بإمكانهما أن يتقصيا الأهم من المصطلحات، لأنها مطروحة في الطريق عبر عشرات الموسوعات والمعاجم والدلائل، وحين يأخذان بالانتقاء فإن الواجب وضع ضوابط، بحيث لا يتحدثان عن المهم، وينصرفان عن الأهم، أما حين يكون المعجم استقصائياً فالأمر جد بسيط.
لقد تحدثا عن مصطلحات مغرقة في علوم ليست ذات صلة وثيقة بالنقد، وإذ كان (علم النفس) قد توغل في النقد، حتى شكل مذهباً نقدياً تبناه (هازلت) واحتفى به (العقاد) من قبل و(عز الدين إسماعيل) وآخرون من بعده، فإن هناك مصطلحات نفسية، ذات صلة وثيقة بالعملية النقدية، لم يعرضا لها، فيما عرضا لمصطلح لم يخطر على بال أي ناقد أو مبدع ذلكم هو (مرحلة المرآة) ص230، ولما كان الأمر انتقائياً، فإن مثل هذا المصطلح لا يمكن أن يتقدم على عشرات المصطلحات المتبادلة بين (مناهج النقد) و(علم النفس).
ولست أعرف على أي أساس قام انتقاؤهما للمصطلحات، وما هي آلية الانتقاء أمام مئات القضايا والتيارات والظواهر؟ فهل قصرا اهتمامهما على الآليات أو على المناهج؟ أم امتدت نظرتهما الى الظواهر والمذاهب؟ وهل نظرا إلى المصطلحات المتنازع عليها بين المعارف والعلوم؟ وكيف فرق المؤلفان بين التيارات والظواهر والآليات والمناهج؟
أحسب أن المأزق الذي وقع فيه كثير من المصطلحيين خلْطهم بين الآلية والظاهرة. ف(التصويرية) و(التعبيرية) و(الرمزية) تختلف عن (البنيوية) و(التقويضية) و(التحويلية). ثم حين تناولا (ما بعد الحداثة والحداثية)، هل نظرا إلى الفعل النقدي أم إلى الابداع الأدبي؟ ولست أعرف ضوابط (البعديات). ولو أنهما في الاستهلال استوفيا طبيعة المادة، وطرائق التناول، ونظام الترتيب والأداء، وضابط الانتقاء لتيسر التعامل مع الدليل.
ولست أشك أن المؤلفين توخيا سد الفراغ المصطلحي بهذه المحاولة المعرفية الشحيحة، مع إمكان البسط، وقيام الحاجة الملحة إليه. وحين يقتصران على ما دون السبعين مصطلحاً، لا يسدان رمقاً، ولا يطفئان ظمأً. فالمصطلحات تتناسل ساعة بعد أخرى، وتعامل المطبقين الذين لا يعون المقتضى يزيد الأمر تعقيداً، وهي بتكاثرها تحمل معها إشكالية المفاهيم التي تتحول بتسارع غريب. وإشكالية المصطلحات بين النقل والترجمة والتعريب والنحت والاشتقاق والتركيب والاختراع، في ترك مفاهيمها وراء ظهرها في بلد المنشأ، واحتمال أرتال من المفاهيم التي تجد مع تجدد اللغة والثقافة وتعدد المتداولين، ويضاف إلى إشكالية المفهوم إشكالية الصياغة، وبخاصة حين يكون لكل مترجم حقه في الصياغة، والترجمة، والمتابع يحس بفوضى الترجمة والتعريب.
والمؤلفان حين لم يحددا ضابط الانتقاء، ولم ينتبها الى فوضوية الترجمة والتسمية يتحول الجهد التقريبي الى إشكالية. لقد تحدثا عن (التفكيكية) فيما جاءت مصطلحات (التشريحية) و(التقويضية) مثلما جاءت مصطلحات (الرومانتيكية) و(الرومانسية) و(الرومانطيقية) مترادفة، موهمة الاختلاف الجذري، والمبتدئون قد تتشابه عندهم المترادفات، وليس هناك من بأس في سياق الترادف وذكر أسبابه. و(البازعي) لما يزل يفكك (التفكيكية) الفرويدية، ونحن بانتظار ما ينتهي إليه، ولا شك أنه الأقدر على كشف خباياها، لأنه وسيط مؤتمن.
والمؤلفان اللذان تقلبا بين المرجعية الغربية، والاستعمال العربي، وراوحا بين التاريخية والدلالية والآلية والمقصدية، لم يكونا متحرفين لهذا التنوع، وإنما فرضته العفوية وتوفر المرجعية، وحين تقوم الحاجة إلى الرصد التاريخي لمصطلح من المصطلحات يعمدان إلى الحديث عن مفهومه، وإذا قامت الحاجة إلى المفهوم نزعا الى التاريخ. وكان بودي لو أنهما رسما منهجاً وخطة، بحيث وزعا التعريف بالمصطلح إلى مقاطع: المقطع التاريخي، ويتحدثان فيه عن بلد المنشأ، والبدايات، وعلى يد من نشأ المصطلح، وما جذوره (الأيديولوجية)، والمقطع المعرفي، ويتحدثان فيه عن حواضنه، أهي ثقافية أم فلسفية أم علمية؟ ثم المقطع التحولي، بحيث يتحدثان عن الترجمة أو التعريب، ومدى استيعاب الكلمة العربية للمفهوم والمقتضى الغربي، ثم المقطع الاستيعابي بحيث يتحدثان عن المتلقي العربي، ومدى قدرته على التمثيل تنظيراً وتطبيقاً. وليس هناك بأس من الإحالة إلى المراجع، لمن أراد التوسع، ولقد أحسنا في ذلك، حيث أحالا إلى المصادر والمراجع، وفي ذلك قطع لقول كل خطيب. نقول هذا، ونطالب بالتوسع، لأنهما التزما بما لا يلزم، وإلا فالمعجمة تتطلب لغة مكثفة مركزة، ولأنهما استعدا ليكونا أدلاء للنقاد. ولم يكتفيا بالقراء، والدال للناقد لابد أن يدله على ما جهل.
ولأنهما عولا على مصطلحات نقدية غربية، ومثل هذا التعويل يحملهما على الترجمة المباشرة من اللغة الأصيلة، أو اللغة الوسيطة المباشرة من اللغة الأصلية، أو التعويل على المترجمات العربية. ولأن التعويل غير واحد، وأن لكل معول عليه إمكانياته اللغوية والمعرفية ومواقفه، فإن المتلقي يتطلب تحديد المصطلحات المترجمة من اللغة الأصل أو اللغة الوسيطة. كأن يكون المصطلح نشأ في ألمانيا أو في فرنسا ثم ترجم إلى اللغة الانجليزية، ثم ترجم منها إلى اللغة الغربية. وتعاقب اللغات عليه يحوله من الأداء المعرفي إلى الأداء الثقافي، وكتب المعاجم لا يجوز أن تعتمد لغة الثقافة أو التحديد الانطباعي، لأن الأصل في المعاجم أن تكون ناقلة أمينة دقيقة حيادية.
|