* القاهرة - مكتب الجزيرة - عتمان أنور:
كما يمتلك النفاذ إلى جوهر الأشياء في أعماله الروائية وتتقطر الحكمة الإنسانية من أدبه يمتلك الأديب العالمي نجيب محفوظ رصيدا زاخرا من المفارقات والحكايات الطريفة والمدهشة وتزخر حياته بالعديد من المواقف الإنسانية والساخرة في أحيان كثيرة، وتعامل مع أصناف وألوان من البشر لا تعد ولا تحصى... الفتوات فى حقبة الأربعينيات والخمسينات التجار والصنايعية والمثقفون وأصحاب المهن المختلفة أبناء الطبقات الشعبية والراقية أيضا..عالم كبير واسع عاشه محفوظ طيلة أكثر من تسعة عقود مضت فقد ولد في أحد الأحياء الشعبية القديمة في القاهرة حي الجمالية في المنزل رقم (8) في حارة القاضي، وكان المنزل يتكون من ثلاثة طوابق يطل من ناحية على درب قرمز والناحية الأخرى على ميدان بيت القاضي، وكان الميدان مليئا بالأشجار في ذلك الوقت من نوع دقن الباشا، ويتذكر محفوظ انه كان يمد يده فيمسك بأوراق الشجر، وكان حي الجمالية في ذلك الوقت من الأحياء التي يسكنها أسر الطبقة الوسطى، وقد خرج نجيب محفوظ من الجمالية بالعديد من الصور التي يمكن أن يستدعيها.
يقول: (إنني كنت أشاهد الفتوات الذين يجيئون بعد معاركهم في الخلاء إلى قسم الجمالية، ومن حجرة صغيرة فوق سطح المنزل كنت أرى مظاهرات ثورة 1919 ومظاهرات النساء من بنات البلد فوق عربات الكارو وإطلاق الرصاص، وكثيرا ما رأيت الجنود الانجليز وهم يتصدون لهذه المظاهرات، وفي عام 1924 عندما بلغ كاتبنا 12 عاما انتقلت أسرته من البيت القديم في ميدان بيت القاضي الى العباسية في المنزل الذي اشتراه والده بألف جنيه، ولكن ظل محفوظ مشدودا الى الجمالية فقد غاصت الأعوام الاثنا عشر التي قضاها في الجمالية الى أعماقه، وانعكست بقوة في عالمه الروائي، نعم تظهر العباسية التي عاش فيها شبابه كله وصدر رجولته إلا كمكان ثانوي، ولم ينتقل منها إلا بعد زواجه، وكان ذلك في الخمسينيات، واستمر يتردد على العباسية مرة واحدة في الأسبوع (يوم الخميس) ليتناول الغداء، ويقضي اليوم مع والدته وفي الساعة السادسة يتجه إلى مقهى عرابي القديم حيث الأصدقاء).
وكان مقهى (عرابي) من أشهر مقاهي القاهرة في النصف الاول من هذا القرن، وصاحبه من أشهر الفتوات في القاهرة. ويصفه نجيب محفوظ: (كان مهيب الطلعة وكأنه خلق لكي يكون زعيما، وبلغت سطوته ان مأمور قسم الظاهر لجأ اليه يوما يطلب حمايته ولكن عرابي أقصى عرش الفتونة بعد ان ضرب (كونستابل) انجليزيا وجرده من ملابسه فقبضوا على عرابي وعندما خرج من السجن اعتزل الفتونة وأصبحت حياته كلها مقصورة على المقهى، وكان نجيب محفوظ على مقهى عرابي شخصا مختلفا عما هو في مقهى (ريش) ففي ريش، كان يبدو مستمعا أكثر منه متكلما، يشارك في الحديث بقدر محدود، ويبدو مهتما بالتعرف على الشبان الجدد، وقد انتهت ندوة (ريش) نهاية غريبة عندما قام صاحب المقهى باختيار يوم الجمعة للإجازة وهو اليوم الذي كانت تعقد فيه ندوة نجيب محفوظ، أما في مقهى (عرابي) فكان اللقاء يتميز بالحيوية فتعلو فيه ضحكات أديبنا الكبير، وكان يتبادل الدعابات والتعليقات الساخرة، في هذا المقهى ولدت رواية (الكرنك) عندما شاهد نجيب محفوظ ذات يوم رجلا دخل المقهى فساد صمت غريب فسأل عنه فعرف أنه حمزة البسيوني مدير السجن العربي سابقا، ولم يره إلا هذه المرة ثم قتل الرجل في حادث بعد ذلك بأسبوعين، وهكذا نجد ان المقهى يلعب دورا كبيرا في روايات نجيب محفوظ الذي يقول: (كان جلوسي في (الفيشاوي) يوحي لي بالتفكير، كل نفس شيشة كان يطلع بمنظر، كان خيالي يصبح نشيطا جدا في أثناء تدخين الشيشة، عرفت المقهى في سن مبكرة منذ دراستي الثانوية، ومعي أحد أصدقائي، وكان لنا مقهى في كل (حتة)، ولكن أشهر مقهى جلسنا فيه (الفيشاوي) ثم (عرابي) ومقهى ( زقاق المدق) و(الفردوس)، و(ركس)، و(لونا بارك) وكنا أول ناس دخلوه في أثناء الافتتاح، وكان يقدم شيشة (معتبرة) وأيضا مقهى (احمد عبده) الذي ذكرته في (الثلاثية)، وأنا سميتها بهذا الاسم لأنني لم أكن أذكر اسمها وكانت مشهورة بالشاي... وهكذا ظلت تلك المقاهي والقاهرة القديمة، وتلك الحواري العتيقة هي قلب اعمال نجيب محفوظ فقد استطاع أن يعكس روحها بقوة وصدق وأن يكسبها الخلود.
على مقهى عرابي تكونت النواة الاولى لجماعة الحرافيش الشهيرة التي كانت تضم الفنان أحمد مظهر وتوفيق صالح، وصلاح جاهين وبهجت عثمان، وكان شعارهم هو الفن والضحك، وكان نجيب محفوظ يتجه بعد جلسة معهم الى كبابجي قريب ويشتري منه كيلو كباب واحد، وهو ما يحمله معه الى أصدقائه الحرافيش وهذا الكيلو لم يتغير لمدة ثلاثين عاما، وكان قبلها يحضر معه كيلو بسبوسة، ولكنه منذ أن أصيب بالسكر في بداية الستينيات انقطع عن شراء البسبوسة، ورغم أن محفوظ لا يحب السفر إلا انه كان يتردد على الإسكندرية في أشهر الصيف بانتظام، وذلك منذ الصغر، فقد كان والده يمنحه 60 جنيها عندما يجتاز دراسته بنجاح، والمبلغ يكفيه ليعيش شهرا كاملا في الإسكندرية واستمرت الحال بعد ذلك فعندما كبر أصيب بالحساسية فكان يتوقف عند توفيق الحكيم في الاربعينيات، وكان يتردد عليها في كازينو بترو ويقول نجيب محفوظ: لم أعرف الباشوات إلا في ندوة توفيق الحكيم بعد ثورة يوليو، كنت أجلس بعيدا وأنظر إليهم فكانوا ينظرون اليّ بريبة ولم أنقطع عن الإسكندرية أبدا إلا في أيام الحرب العالمية الثانية فلم يكن أحد يغامر بالذهاب إلى هناك.
حب وحياة وفلسفة
أما عن التجارب العاطفية فى حياة نجيب محفوظ فقد كان أول حب له والذي اثر في حياته كثيرا فقد كانت ابنة عائلة ثرية تسكن في أحد السرايات في شارع العباسية وأصبح مكان السراي عمارتان الآن، وقد انقطعت أخبارها بعد أن تزوجت مهندسا، فقد كانت تجربة مجردة من العلاقات نظرا لفوارق السن والطبقة ولم تعرف العلاقة اي شكل من أشكال التواصل، أما هو فقد تزوج زواجا تقليديا من زوجته الحالية التى أنجب منها ابنتين هما فاطمة وام كلثوم.
فلسفة نجيب محفوظ فى الحياة تختلف عما يحمله أدبه فهو فى الحياة يعيش بالتفاؤل والأمل.. أما في فلسفته فى أدبه تقوم حسبما يقول أستاذ الفلسفة الدكتور صلاح قنصوة فى دراسة له عن الفلسفة فى أدب محفوظ على أن المشروع الإنساني محكوم عليه بالإخفاق من دون أي استثناء في أي عمل من أعماله، وأن شعور الإنسان بهذا الإخفاق هو شعور حتمي، فالنتيجة تحدث بصرف النظر عن المقدمات التي تقود إليها وهو يرى ان كل شخصية ترتب نفسها منطقياً لأن نظرته أعمق وأعلى وله مصطلحاته الخاصة. أما في الشخصية أو الحوار فهو يستخدم الرمز الشفاف الذي يقوم على التجسيد والتشخيص والفلسفة التي تقوم عليها رواياته وهي التشوق والرغبة المحمومة في الصلة الحميمة، وفكرته باستمرار أن الإنسان لابد أن يرتبط بالعالم وهو يعاني نظاما دقيقا جدا فهو يرى أن الموضوعية هي سبيل الحرية وأن الذاتية هي سبيل العبودية والانسلاخ عن العالم.
أما عن فكرة الزمن لدى محفوظ فتقول أستاذة علم الجمال الدكتورة وفاء إبراهيم فى دراسة لها ان محفوظ ينظر للزمن من خلال الانسان، وأنه بقدر إعجابه بمفهوم الزمن عند برسن إلا انه وجد ان هذا المحتوى الفعلي للقالب الزمني لا يكون إلا للإنسان فقط، وخصوصا الإنسان الشعبي وهذا ربما يفسر لنا صلته الروحية بحي الجمالية والحسين، وبأسماء الحارات فلديه إرادة خارقة تبحث لتصور حياة هذه الحارات، وشعرت أن نجيب محفوظ أنصت بإخلاص لنبض الشعب، وما رواياته جميعها إلا ملء للأوعية الزمنية الفارغة في داخلنا التي تعني فلسفيا انها توجد معنا من لحظة ميلادنا وتتعايش وتتفاعل مع التجربة فيما بعد، فنجيب محفوظ أعتقد أو رأى أن من أفضل من يملأ هذه الأوعية الفارغة هم أبسط الناس في المجتمع المصري مثل المعلم نونو، وليس فرج الذي يشكل وجودا فارغاً يدخل العدم على الوجود في رواية (زقاق المدق) بل إنه يفرغ وجود الآخرين بكل ما يحتويه من قيمة أو وجود، وأعتقد ان الاستاذ شعر ان فرج ان من هم على شاكلته كثروا في الآونة الاخيرة فتوقف عن الابداع الذي يعتمد على الملء بما في الواقع من قضايا حقيقية، ولجأ في مجموعاته الأخيرة إلى أحلام فترة النقاهة ليغترف من داخله ومن ذاته، لأن الطبقة المتوسطة التي كان يغترف منها انسحقت إما إلى هبوط تعاني فيه السعي إلى ضرورات الحياة أو صعود تتسلل فيه وتركب الموجة، وبالتالي غاب وجودها وتلاشى مصدر إبداعه الحقيقي وأصبح المصري في نظره يعيش على وجوده الخارجي ولا يعيش ديمومته الداخلية.
رؤية العالم
وحول عالمية أدب نجيب محفوظ يقول الدكتور سعيد دردير أستاذ الفلسفة وعلم الجمال في جامعة القاهرة فى دراسته البحثية عن عالمية أدب محفوظ: إن كل أدب عظيم يكون محليا وعالميا في الوقت نفسه، ومن الجهة نفسها لأن العمل الفني أو الادبي ينشأ في إطار زمني ومكاني شديد الخصوصية، ويكون له طابع خاص أشبه بسحنة الشعوب التي لا تخطئها العين، ويحمل روحها ورائحة العمل تتجلى دائما في مكان وتاريخ وحضارة وأسلوب في رؤية العالم، وفي نسق من القيم أيضا وهذه الخصوصية يتم تكثيفها في عمل كل أديب على حدة وبالتالي فإن فكرة العالمية لا تعني مجرد انتشار العمل خارج حدود إقليمية أو موطنه بسبب جائزة أو دعاية أو إعلام أو ما شابه ذلك، وهذا ما يدفعنا باستمرار في التفكير حول السر وراء انتشار عمل أدبي أو إبداعي من دون آخر على الرغم من أنه قد يكون أقل قيمة، وهو ما يعني ان مسألة الانتشار لا تجسد لنا معنى عالمية الادب لأن العالمية، كما أفهمها هي قدرة باطنية في العمل الادبي تنبع من داخله وتجعله قابلا للتوصيل والتواصل مع الناس على اختلاف مواطنهم وجنسياتهم وخصوصياتهم، وما يتم توصيله في هذه الحالة هو طابع إنساني عام أو دلالة انسانية كلية يفهمها الانسان في كل زمان ومكان وهذا الطابع العام، لا يمكن أن يتكشف لنا بما يعني ان العالمية هي اسلوب في الرؤية الفنية قادر على تمثيل طابع إنساني عام.
وأكد الدكتور سعيد دردير ان الافكار الفلسفية في أعمال نجيب محفوظ لا يقدمها لنا الا من خلال حال شديدة الخصوصية فعلى سبيل المثال سنجد ان التطلع الطبقي الذي يفقد معه الشخص قيم طبقته هي فكرة مركزية في كثير من أعمال نجيب محفوظ وهي دلالة إنسانية عامة توجد في كل زمان ومكان ولكن نجيب محفوظ يصورها في أسلوب خاص من الفردية في شخصية محجوب عبد الدايم في (القاهرة 30)، وبشكل مختلف عن شخصية حميدة في (زقاق المدق) التي تنتمي إلى شريحة اجتماعية معينة في مصر تسكن الحارة المصرية، وتعيش في الزقاق بكل تفاصيله، وهذه القدرة الفنية تمثل طابعا إنسانيا عاما تتجلى وتتمثل من خلال روح خاصة مميزة لأسلوب ما من اساليب الحياة، وتلك القدرة على تصوير العام في الخاص هي معجزة ما نسميه بالادب العالمي.
|