خرج الشاعر من بيته بعد أن ضاق صدره وراح يذرع الطرقات ويستنشق الهواء ثم يتأمل السحب الرهوة التي تذرع السماء ثم تذكر قصيدة للشاعر الروسي (يسنين) تقول كلماتها:
(أيتها الغيوم
أيتها الغيوم
أنت مشردة مثلي
أنا الصعلوك السهوبي
وسارق الخيول الجلف
أضيئي حقولي بخضرتك المرتجاة
ودعيني أستحم برذاذك العطر)
تذكر أن يسنين قد انتحر تماماً مثلما انتحر خليل حاوي، تيسير سبول، فو ياما (الياباني)، الشاعر الإسباني (خونيليو) وغيرهم وغيرهم، ثم راح الشاعر يتساءل: لماذا ينتحر الشعراء في أزمنة الهزائم والسواد والحروب العمياء؟ وقبل أن يفكر بالإجابة كان قد وصل إلى مجلس في طرف الحي كان يتصدره أحدهم وكان كثير الفخر بأجداده السالفين ثم راح الشاعر يتذكر:
أقول لمن في كل يوم
يباهينا بأجداد عظام
أتقنع بالعظام وأنت حر
وأن الكلب يقنع بالعظام
فجأة هب الشاعر في وجهه قائلاً: لِمَ لا تقول:
لا بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
أو على الأقل تتذكر ما قاله شكسبير في قمة مجده حينما أراد أن يهينه أحد النبلاء ويسأله إلى أي الأسر ينتمي الشاعر ساعتها قال له شكسبير: (أنا ابن أسرة يبدأ مجدها بي وأنت ابن أسرة ينتهي مجدها بك).. ولماذا لا يتساءل ذلك المفاخر أين ذلك النبيل وأين شكسبير من ذاكرة التاريخ؟
***
كان ذلك المتفاخر ثقيل الظل والدم والقلب ثم راح الشاعر يهجس:
يا من تبرمت الدنيا بطلعته
كما تبرمت الأجفان بالرمد
يمشي على الأرض مختالاً فتحسبه
لسوء طلعته يمشي على كبدي
لو أن في الأرض جزءاً من سماجته
لن يُبقيَ الموت إشفاقاً على أحد
***
* رمقة ذات الرجل الثقيل بنظرة تنم عن الحسد وراح الشاعر يهادن نفسه بالقول:
اصبر على حسد الحسود
فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها
إن لم تجد ما تأكله
تفلسف الشاعر كثيراً في تفسير هذين البيتين وأيقن تماماً أن:
كل العداوة قد ترجى إماتتها
إلا عداوة من عاداك عن حسد
***
اثنان يتهامسان عن الشاعر فتذكر كان هنالك قول قديم يقول:
إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا
شرا ً أذيع وإن لم يعلموا كذبوا
ثم نهض الشاعر وهو يحاول أن يغادر المجلس فرأى الناس من خلاله أنهم:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً
مني وما سمعوا من صالح دفنوا
مثل العصافير أحلاماً ومقدرة
لو يوزنون برق الريش ما وزنوا
***
خرج الشاعر ليواصل السير في الشوارع ولكنه فجأة لمح مقهى يغص بالشعراء وكان أحدهم يتفاخر على الشعر وينشد قصيدة تافهة وهنا قال الشاعر المتسكع موجهاً كلامه للمتفاخر بالشعر: