إذن من تلك المنطلقات جميعاً يتبين لنا أن دروب التنمية وهياكلها المختلفة قد تكون سهلة المنال إذا اتحدت الأهداف وصلحت النيات وكان المواطن معول بناء في كيان المجتمع والدولة. وإن من الأفكار التي تتردد عند طرق موضوع مثل هذا هو أن نسمع من يقول: (لكي تزدهر حضارة ما ويكون لها اطراد في النمو وتقدماً في السلم الحضاري ينبغي ألا تكون هذه الحضارة شديدة الاتحاد ولا شديدة الانقسام) فالإفراط في الوحدة قد ينشأ منه تعصبات عمياء والإفراط في الانقسام ينشأ منه تحلل وكلا المسلكين طرفي نقيض يعيقان إطراد مسيرة التنمية، إذا ينبغي والحالة هذه أن تكون التنمية قادرة على الاختلاط في حرية مع بقائها متميزة في خصوصياتها، إذن يجب عليها -أقصد التنمية- ألا تتمحور حول نفسها بل لابد أن يكون لها تأثيرات على غيرها كما يجب أن تأخذ من تأشيرات غيرها إذا كانت صائبة فالتنمية يجب أن تكون دائماً في حالة زيادة وحذف وأن يوكل بهذا الإجراء إلى الصفوة من المنظمين.
ومن معاول التنمية البناءة وركائزها أن يكون لدينا استثمار اجتماعي قبل أن نفكر في الاستثمار الاقتصادي، وها هم رجالات دولتنا دائماً يحثون على هذا التوجه فالاستثمار في الجانب البشري تستطيع الأمة الخروج من جميع أزماتها الاجتماعية والاقتصادية على حد سواء. إذن لا يأتي الاستثمار الاقتصادي إلا إذا سبقه استثمار اجتماعي وبما أننا في صدد تنشئة مجتمع سليم فلابد أن يكون التعاون والتناصر والألفة والوحدة من مدخلات هذه التنمية فيجب على المجتمع والدولة أن يسيرا جنباً إلى جنب فالنصح والإخلاص هي قضايا حضارية تتوج الحضارة مجداً وعزا وقد قال (أبراهام لنكولن) ذات يوم: (قد يخدع رجل كل يوم ويخدع شعب بعض الأيام إلا أنه لا يخدع شعب كل الأيام) إذن التجانس والتناغم في مسار واحد أمر ضروري.
فالتصادم في أدوار الأفراد معيق لعجلة التنمية ومربك لها، وكأننا بهذا التصادم نضع العربة أمام الحصان.
ومن ركائز التنمية يجب على المنظم أو المشرع عندما يقوم بتشريع أو تقنين ما ألا يبني تشريعاته وتفصيلاتها على افتراضات فلسفية لأن الافتراض الفلسفي غير علمي أحياناً بل قد يكون محض خيال غير ممكن التطبيق وسراب خادع ليس له نهاية ولا يتعدى الفكر الفلسفي أحياناً أن يكون مجرد تجربة شخصية ذاتية من المتعذر تطبيقها على البشر، إذن أي مشروع قانوني أو تشريعي يبنى على افتراضات فلسفية لابد أن يكون نتاجها خداجاً وسوف نخفق عند تطبيقه ومن ثم يزرع هذا الإخفاق أشياء تربك مسيرة التنمية كالإحباط والقنوط.
من هذا كله يتبدى لنا أن دراسة الواقع والنزول إلى أرضه أمر ضروري كما أنه ينبغي على المشرع أو المقنن ألا تسبب له أخطاء قد ارتكبها أي حرج طالما هناك فرصة للتنازل عنها، وكما يقول علماء الإدارة (إنه من السيئ أن لا تتخذ قراراً ولكنه من الأسوء أن تتخذ قرارات ثم يتبين خطؤها ومن ثم لا نتنازل عنها) إذن يجب على المنظم أن يكون في حالة إصلاح واستنفار نحو أخطائه وذلك بأن يقوم بإعداد قوائم جرد وجدولة للأخطاء موازية لقوائم جرد من التصويبات والإصلاحات مقابل تلك الأخطاء كما أنه من ركائز التنمية الفضلى عدم إخفاء الحقائق أو حجبها أو تقنيعها عندما ترفع إلى المستويات العليا في الهياكل التنظيمية، فحجب الحقائق خيانة للقمم والسفوح على حد سواء، وتكمن خطورة حجب الحقائق عندما يندرس الزمان فيكون المستور اليوم معضلة كأداء وعاقاً صعباً في الغد. إذن إن قتل نتوءات اليوم هو أمر ضروري حتى لا يكون له عصبة في الغد. كما أنه من ركائز التنمية السلمية عدم إطلاق العنان لنظرية (تمام يا سيدي) كما أنه من ركائز التنمية أن لا يوجد في متونها أشياء لا يمكن أن تطبق أو أن يوجد في متونها أشياء يقوم مطبقها بمجاوزتها كالروتين الموجود في لوائح الضبط والإجراءات لأن وجود إجراءات روتينية هي فرصة لمن يريد أن يتلاعب بقضية ما كما أنه من ركائز التنمية السليمة هو الإيمان بتكافؤ الفرص وأن يقيم المنظم لهذا التكافؤ اعتبارات مادية ومعنوية في السباك والنجار إلا كالمهندس والطبيب في سلم الحضارة كلو واحد منهم مثل الآخر يحترمون لأنهم يصنعون خدمة، وإن من ركائز التنمية السليمة ألا يوجد هناك ازدواجية في رعاية بعض المصالح، فعن طريق هذا الازدواج تترك المسؤولية وكل يرميها على الآخر، كما أن وجود الأخطاء في هذه المهام المزدوجة يصعب علينا عزوها ومن ثم محاسبة من أتت عن طريقه هذه الأخطاء.
كما أن عن طريق الازدواجية لا يمكننا الوقوف الصحيح على من هو صاحب الإصلاح والسيرة الحسنة ومن ركائز التنمية السليمة حماية الأحداث والمراهقين من الانحرافات الاجتماعية والتي أصبحت تهدد الهياكل الاجتماعية (الأسرة، المدرسة، المؤسسات العلمية) فانحرافات المراهقين والأحداث في زماننا هذا طغت على إصلاح جهات الضبط الاجتماعي (كالمدرسة، الأسرة، الدولة) وغيرها فمشاكل المراهقين اليوم باتت من أهم المشاكل الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية فبدأ المجتمع يواجه تحديات الشباب والمراهقين وانفلت الزمام من المصلحين وإننا إذا أردنا أن نسبر غور هذه المشكلة ومن أين أتت لرأيناها تمخضت من عدة متغيرات:
أ - متغيرات اجتماعية.
ب - متغيرات اقتصادية.
ج - متغيرات ثقافية.
فقد تضافرت هذه المتغيرات مجتمعة إلى إفراز شباب حاولوا أن يسيروا خلف هذه المتغيرات ذات الانطباع والإيقاع السريع فأخفقوا ومن ثم تولد عندهم ردود أفعال منعكسة حدت بهم إلى هاوية الضياع وانداحوا عن المثل والقدوات الصالحة فتولد عند هؤلاء الشباب شك في مضامين أخلاقهم فكان لزاماً علينا جميعاً أن نهب لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بإعداد دراسات تنبثق من عدة جهات ومنها:
أ - جهات الدراسات النفسية.
ب - جهات الدراسات الاجتماعية.
ج - جهات الدراسات الأمنية والقضائية والدينية.
إذن على المصلحين ورجال الدين وعلماء التربية والنفس والاجتماع طوقاً من المسؤولين تجاه الأحداث والشباب وأكاد أجزم أن الأحداث التي حصلت من شبابنا في الآونة الأخيرة من أمور عكرت صفو أمننا وأزعجت ولاة أمرنا ما هي إلا بسبب التقصير في التنشئة التي توجه إلى الشباب.. إن تربية الناشئة هي أهم شيء في أجندة رجال الدين وعلماء التربية والنفس والاجتماع، فالتربية السليمة وتهذيب النفس تسبق العلم فعلم دون تهذيب حذلقة وتجديف في الحضارة، وإن التربية السليمة هي التي تقوم على حساب الكيف لا على حساب الكم. فمن هذا المنطلق يجب أن نقدم للشباب وغيرهم تربية متينة تنفعهم عند الأزمات ومعضلات الأمور، وإني ألمس أن ما يقدم لشبابنا اليوم في أروقة المساجد وقاعة الدرس وقبب الجامعات تربية هشة لا تهدي ضالاً ولا تردع من حاد عن الطريق، ولكي أدلل لكم على هشاشة التربية المقدمة للنشء أن الطالب إذا خرج من مدرسته أو حلقة علمه يلتقط حجراً ليرمي به مصباحاً كهربائياً، أو يتندر على كفيف أو.. الخ. إذا كانت مدخلات التربية غير سليمة كهذه المدخلات فإني مجرجاتها تكون كذلك، وإذا كان للتنمية ركائز فتربية النشء من أهمها. وإذا ما أردنا أن نستشرف مستقبلاً واعداً للأمة فلابد أن يكون هناك تربية سليمة عميقة وإلا كما يقال إلى أين يذهب الثور إذا لم يذهب إلى المزرعة! من هذا وذاك يجب علينا أن نعد للناشئة تربية تقوم على أسس متينة وأن تكون التربية مقدرة على حسب أطوار عمر النشء لأن لكل مرحلة عمرية ما يناسبها من التربية. وإني لأرى العجب حينما يقوم المربون من علماء الدين والتربية بنقل الشاب من مرحلة المراهقة إلى مرحلة الرجولة مباشرة دون المرور بأيام فترة المراهقة، وإن في هذا المسلك من التربية عناء للشاب وإلا قولوا لي بالله عليكم: كيف تمحلون شاباً لا يتجاوز عمره الخامسة عشرة مشاكل أمته أليس هذا فحسب بل نراهم يحاولون تحميله مشاكل العالم بأسره وإن من الأشياء الهامة التي يقوم بها المربون اليوم هو أنهم يطلعون الناشئة والشباب على مشاكل أمتهم وهم ما زالوا في ريعان الصبا والشباب.. إن تحميل النشء مشاكل أمته مبكرا قبل زمن يتسنى له فيها البلوغ وحسن التفكير هو معضلة كأداء في مسيرة التنمية على مختلف مستوياتها فكم من شاب اطلع على مشاكل أمته ومن ثم عجز عن التأقلم فتشنج وأنتج فكراً ضالاً.. وما المشاكل التي تتكبدها اليوم أمتنا إلا من هذا القبيل. وإلا كما يقال في كل رأس صداع. من هذا المنطلق فنعرف أن للأمم آلاماً وآمالاً وإنك لن تستطيع أن تتخيل مجتمعاً بدون مشاكل ولكنك تستطيع أن تتخيل مجتمعاً يقوم بحل مشاكله إني أراني أطنبت في هذه الركيزة لأنها هي بيت القصيد والشاهد في هذا المقال.
|