Monday 7th August,200612366العددالأثنين 13 ,رجب 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"الثقافية"

حين تمطر سحائب السدحان حين تمطر سحائب السدحان
رسالة تتخندق في مخابئ غواية السرد

إنه درس تطبيقي وعملي عميق يتلبس ثوب السيرة الذاتية.
كان هذا أول ما طاف بذهني حين فرغت من قراءة كتاب الصديق عبدالرحمن محمد السدحان (قطرات من سحائب الذكرى)، الذي تفضل السدحان الوفي بإهدائي نسخة منه في بادرة لا يستغربها كل من عرفه عن قرب، محباً ووفياً بإخلاص.
مأزق التصنيف
ويبدو أنني لم أكن الوحيد الذي التبس عليه تصنيف الكتاب بين أشكال التأليف، هل هو سيرة ذاتية للكاتب؟ أم هو رصد تاريخي لمجتمعات عايشها المؤلف، أم هو نوع من التأليف التربوي في فن الحياة؟ أم أنه نص روائي استعان فيه الكاتب بشيء من تجاربه الواقعية ثم أعمل فيه خياله؟.
هذا الالتباس في تصنيف (القطرات) فيما يبدو لم ينجُ منه حتى مؤلفه الذي أوضح حيرته قائلاً في تمهيده (لست أعرف كيف أصف هذا الكتاب أو أصنفه. إن قلت: إنه (سيرة ذاتية) ففيه شيء من ذلك (..) وإن قلت: إنه (رواية) فإنه فيه شيء من ذلك، ثم يتخلص من مأزقه مقرراً بأن الكتاب مجرد غيمة مشحونة بقطرات من الذكريات، وإنه إنما يستمطرها غيثاً على الورق تجمع زخاته بين شيء من (الرواية)، وشيء من (السيرة) موضوعاً.
وبهذا النثر الشعري الجميل تخلص الكاتب من مأزقه، تاركاً قارئه في هذه المتاهة يكد باحثاً عن هذا البرزخ الذي يقع بين (الرواية) و(السيرة)، وأين تقع (قطرات) السدحان فيه!.
نصٌّ برزخي
حسناً.
سنقبل بهذا التصنيف البرزخي الذي يقترحه علينا الكاتب بأن نصه روائي (سردياً) وأن موضوعه (سيرة).
إلا أن القارئ يقبض ما بين السرد والموضوع المسرود على شيء لم يفصح عنه (السارد).
لا جديد أيضاً في هذا، لأن الكاتب أحياناً يتعمد إغفال تحديد اتجاه خطابه، وفي أحيان أخرى تفرض تقنية النص الفنية عليه ذلك.
وللتقنية سطوتها وسلطتها على النص.
كما ولها تأثيرها في استراتيجية الخطاب نفسه.
ف(القطرات) في جوهره نص تربوي من طراز فريد.
وهو يستمد تميزه من (الكيفية) التي عالج بها موضوعه، والمعادلة التي توصل إليها لإبلاغ رسالته.
صحيح، كما يومئ الكاتب بأن خطته ارتكزت على السرد الروائي ك(قالب) لعمله، وأنه آثر أن يختار تجربته الحياتية الشخصية كمادة (خام) يستعمله في بنية نصه ك(موضوع).
وعلى كل فإن كثيرا من الكتاب أخذوا بهذا الخيار، فجعلوا من سيرتهم قصصاً تحكي تجاربهم، كما أن بعضهم يكتفي بتوظيف بعض تجاربه في أعمال روائية صرفة، وهذا ضرب من التأليف معروف.
إلا حين يتدخل الحس التربوي ليملي إرادته على الكاتب.
فهنا تختلط الأوراق تماماً في طاولة الكاتب، لأنه يواجه مطلبين: أحدهما نفسي يتعلق بنوازعه اللاشعورية ودوافعه اللاواعية لعملية الكتابة وجدواها.
والآخر فني جمالي، يتعلق بتقنية تصميم العمل الفني، وحتى في هذا المطلب التقني يكمن مطلب نفسي جمالي.
فالحس التربوي في جوهره شعور لا واع عميق بالمسؤولية الأبوية تجاه الآخرين.
بينما تتجه الطاقة النفسية الإبداعية بكليتها نحو العمل أو الأثر الإبداعي، وهي تمارس أقصى درجات صدقها وإخلاصها للأثر المبدع.
رتق الفتوق
فهو محل عنايتها الأولى.. واكتماله هو غايتها التي لا غاية قبلها ولا بعدها.
هذا التناقض المفترض بين الطاقة الإبداعية، وبين الحس التربوي العالي في تركيبة المبدع الفكرية والوجدانية، والذي أفرز في الفكر النقدي العربي مدرستي الفن للفن، والفن للمجتمع منذ خمسينيات القرن الميلادي المنصرم، استطاع السدحان أن يفض الاشتباك فيه بين نزعتيه المتصارعتين سلمياً، وببساطة شديدة.
فهو من ناحية أوفى (القالب) السردي حقه تماماً، فلم يكتفِ بالسرد المتسلسل زمانياً، وإنما أدخل فيه تقنية تقطيع الزمن السردي، مع المحافظة على خيط رفيع، ولكنه قوي، لتتابع الوقائع زمانياً.
ومن ناحية أخرى غاص الروائي السدحان في تفاصيل الأمكنة تصويراً محتفياً باحتشاداتها الحركية، سواء في مزرعة جده لوالدته، في قرية (مشيع) أو منزل والديه في أبها، أو المدرسة الابتدائية بها، أو وصف الطريق من المزرعة إلى المدرسة سيراً.
الوصف التفصيلي الذي يقدمه السدحان لهذه الأماكن وللناس وأشكال العلاقات والعادات والطقوس الاجتماعية، بل وإتقانه تصوير الشخصيات الرئيسية في عمليته السردية بما يعطي فكرة أو صورة متكاملة لها، ينبئ بأنه كان يكتب مستدعياً هذه الأمكنة والناس بحب دافئ وعميق، لأنه يلامس في لوحاته أدق تفاصيل مفردات الحياة اليومية البسيطة والعفوية.
ولعل هذا، إلى جانب نجاحه في صب هذه الوقائع المتناثرة في قالب درامي تعود خيوطه مهما تشعبت إلى أصابع الروائي، باعتباره مركز الحركة ومرجعيتها، أقول لعل هذا هو ما دفع البعض مقترحاً على المبدع عبدالرحمن السدحان لأن يصور هذا العمل كعمل سينمائي أو تلفزيوني، فهو مستوف لكل شروط العمل الدرامي المصور.
ويزيد من قيمته التاريخية والفنية أن أحداث الرواية- السيرة تمتد على مدى مرحلتين في عمر المجتمع السعودي الحديث، وهما مرحلة ما قبل الوفرة حيث كان المجتمع بسيطاً في موارده ومستويات معيشته، ومرحلة تدفق النفط بكميات كبيرة تدفقت على أثرها الثروة وانفتح المجتمع على العالم وغزته أنماط الحياة العصرية من كل جانب.
والحال إن الفارق ومستوى التباين بين النمطين كاد - أو بالفعل - يحدث قطيعة تاريخية في مسيرة المجتمع، وفي ذاكرة أبنائه.
وسيرة السدحان بالضبط تعمل على وصل هذا القطع في ذاكرة المجتمع، لأن الوعي بنقطة الانطلاق هو الترموميتر الذي يقيس به المجتمع درجة تقدمه، ويراجع على ضوئها خطواته، وهو يرتقي سلم التطور والتقدم.
جوهر مخاتل
عبر التقنية السردية المتقنة والمشوقة، ينسل خيط تربوي رفيع من بحيرة جوفية عميقة، يجهل القارئ منابعها، ولا يستدل عليها إلا بهذا المذاق الذي يتحسسه قوياً، دون أن يستطيع تحديد هويته.
إلا أن هذا الشعور العميق بالمسؤولية تجاه الآخرين، وهو كما قلنا، مُلخَّص، وجوهر الحس التربوي عند السدحان لم يكن وليد عمله هذا الأخير، إذ يستطيع المتابع لمسيرة المؤلف الفكرية من خلال ما يطرحه على صفحات الصحف، يستشعر مدى عمق وأصالة هذا الباعث التربوي الذي يكاد يسم كل كتاباته.
فقد ردَّ مرة في صحيفة الجزيرة - العدد 12289 - على من وصف كتابته بالمهادنة، وبأنه ينشد (السلامة) فيما يكتب لايريد أن يغيظ أحداً أو يبغضه أحد، رد قائلاً: إنني (أحاول) أن أكتب للعقلاء فقط من الناس الذين يبحثون عن (فكرة).. لا عن (فتنة) فيما يقرؤون، إدراكاً مني أن الواجب الثقافي والأخلاقي والوطني يملي علي أن أكتب لهم ما ينفع ولا يضر، ثم يستطرد مؤكداً القيمة التربوية في فعل الكتابة قائلاً ولكنني لا ولن أتعمد (إرضاء) أو (إيذاء) أحد من الناس، كائناً من كان، بكتابة تعتمد على عبثية النفاق أو غوغائية الظن، أو ضبابية المعلومة (..) لأنني أحرق به أصابعي، وأهين به ذكائي، وأهدر من خلاله كرامة قلمي.
ويلخص السدحان منهجه في الكتابة قائلاً:( باختصار شديد أوصي من يمارس الفعل الكتابي ونفسي بأن يراعي الله تعالى فيما يكتب، ثم يستهدف مصلحة الوطن فيما تطرحه (موائد) قلمه، فإما أن يكتب كتابة تعبر الأفئدة نفعاً لا ضراً، فلا (يُغلُّ) النفوس بالحقد، ولا (يغْللها) بالباطل، ولا (يحقنها) بالفتنة. وإما أن يهجر القلم، فذاك أولى له وأبقى، وهو بهذا الفعل (يميط) الأذى عن نفسه، وعن قلمه، وعن وطنه أولاً وأخيراً!.
وهكذا فإن الكاتب كما نرى قد حدد لنفسه خطوطا حمراء فيها يكتب، ضابطاً نفسه في حدودها.
لا وقت للهو
ولا يخلو من دلالات واضحة أن الكاتب وضع عنواناً لمقالته بالصحيفة الكتابة الجادة ليست ألعاباً نارية!.
فالتأكيد على (الجدية) في الكتابة بوضع مقابل الألعاب النارية.
نحن هنا أمام تحديد صارم بين الجدية واللعب.
واللعب في الكتابة، وأن عُدَّ لهواً إلا أنه خطر يماثل خطورة اللعب بالألقاب النارية.
واللعب بالألعاب النارية لا يمارسه سوى الأطفال الصغار، مما يعني ضمنا أنه لا يليق بالراشدين.
وتكاد تلمح وراء كل ذلك رؤية متكاملة للحياة وللإنسان ولدوره في الحياة.
إلا أن قارئي (القطرات) يجد تفسير ذلك في تفاصيل حياة السدحان والتجارب القاسية التي عاشها منذ الطفولة، حيث يتضح لهذا القارئ أن ظروف حياة المؤلف لم تتح له فرصة أن يعيش حياة سهلة، مستقرة مثل كل الأطفال، إذ عاش تجربة اليتم في حياة والديه، وتعرض لكل ما يمكن أن يتعرض له اليتيم من معاناة أن يواجه الحياة وحيداً، وتنقل دائم بين الأمكنة والمجتمعات والبيئات المختلفة سعياً وراء مكان خاص في هذا العالم.
وحدها إرادة الله وقوة إرادة اليتيم ما ينقذه من التشرد والفساد.
هذا الإحساس بالعزلة والتجرد من أي سلاح عدا الله في مواجهة العالم، ينمي ويقوي في الإنسان الشعور بالمسؤولية الكاملة تجاه مصيره، وأن كل قرار يتخذه - حتى في أصغر المواقف - هو قرار مصيري يتوقف عليه مستقبله كله.
ومن هنا تجيء (الجدية) كموقف مبدئي في الحياة، فالحياة في شرعة هذا النوع من الناس لا تحتمل اللعب والمداورة والخداع واللهو.
ولذا فإنها معركة حقيقية لتأكيد الذات، حتى ولو لم يعد صاحبها ذلك، ولعل هذا هو الذي ميز تجربة السدحان الدراسية في أمريكا، إذ كان يلازم مكتبة الجامعة ملازمة دائمة، وإنه عمل - وهو الطالب السعودي - رغم عدم احتياجه المادي للعمل في البوفيه عاملاً، ثم في مكتبة الجامعة، استثماراً للوقت، وتخلصاً مما يسميه جلسات (الحش) التي يعقدها الطلاب العرب يومياً.
بل إن حياته التي استعرضها في القطرات كانت تسير بهذه الجدية والصرامة، لأن ظروف حياته كما قلنا ضيقت أمام وجهة هامش الترف والفراغ من الهموم، لأنه كان هو المسؤول عن مجمل تفاصيل حياته.
مخابئ غواية السرد
باختصار يمكنك القول: إن عصامية السدحان هي التي شكلت بنيته الوجدانية والفكرية بهذا الطابع من الجدية في النظرة للحياة والصرامة مع النفس ومحاسبتها على كل صغيرة مهما دقَّت، وطبعته بهذا الحس العالي بالمسؤولية تجاه نفسه وتجاه الآخرين، والانضباط الانفعالي.
وإن هذه العوامل مجتمعة في ممارسة الفعل الكتابي تنعكس منهجاً - أو تختط طريقاً - في الكتابة تربوي في المقام الأول.
غواية السرد التي يستسلم لها الكاتب في وحدته قد تنسيه (الهدف) الواعي في كتابة النص، بل هي تذهله عن (الرسالة) الواعية للنص، إلا أن الحس التربوي العميق في مثل هذه الحالة من (غيبوبة) السرد هو الذي يأخذ بيد النص بلطف (متواطئ) ويقوده لا شعورياً إلى الغاية التربوية، التي تطل ساخرة بين مخابئ الحروف والكلمات في النص.
وهذا ما نجح فيه السدحان بامتياز، لولا أن الحس التربوي كاد يفسد هذا الترتيب الجميل والكامل، وأطل في نهاية (القطرات) مسفراً عن وجهة بصراحة، عبر ما يشبه المنبريات التربوية، كاشفاً، أو موضحاً بنبرة تربوية عارية عما يمكنك أن تسميه الدروس التي استنبطها، أو خرج بها من تجربته الحياتية الحافلة، التي بدأت بما يشابه اليتم، وكان فيها على شفا جرف هار من التشرد والضياع، وإلى ما صار إليه الآن.
جميل منه أن يوضح لقارئه - خاصة الشباب من قراءة - هذه العبر والدروس التي استقاها من تجربة يحق له أن يحمد الله على مآلاتها، وأن يفاخر بها، ويعرضها على قارئه، إلا أن الذي سيكون أكثر اتساقاً مع مجمل النص كان أن يترك للقارئ الوصول إلى ذلك مستهدياً بالسرد المؤثر لهذه التجربة.
إلا أن الكمال لله وحده تعالى.

د.صالح بن سبعان
أكاديمي وكاتب سعودي

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved