عندما فكرت في الخوض في غمار ماهية الأمانة ومدلولاتها وجدت نفسي وكأنني في بحر لج تتلاطم فيه الأمواج من كل حدب وصوب؛ ذلك لأن الأمانة ليست من السهولة بمكان الحديث عنها أو اسبار غورها أو تأطيرها في بضعة سطور ولاسيما أن أمرها عظيم ومسؤوليتها جسيمة؛ ولهذا أبت السماوات والأرض والجبال من حملها وأشفقن منها فحملها الإنسان انه كان ظلوماً جهولا. ولعلنا قبل الاسترسال في مضامين هذه الأمانة وأبعادها المختلفة على مسرح الحياة الإنسانية نقف على ماهية الأمانة. فلقد ورد في المعجم الوسيط أن الأمانة تعني الوفاء والوديعة، والأمين هو الحافظ والحارس، والمأمون من يتولى رقابة أمر ما أو يحافظ عليه وجمعها أمناء، ورجل ائتمن أي أمنه وأمّنه وجعله أميناً عليه، واستأمنه أي استجاره وطلب منه الحماية، فيما تعني الأمانة في المصطلح العام كل ما ليس للإنسان فيه حق مشروع من قول أو فعل، ومرجع ذلك كله الإسلام وما اتفق عليه الناس بما هو خير لهم. وفي كتاب الله الكريم من الآيات ما تبين مدى أهمية تأدية الأمانة وإعادتها إلى أهلها، ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ..}، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}، فيما أكد النبي صلى الله عليه وسلم ما يترتب على خيانة هذه الأمانة من نفاق وعذاب يوم القيامة بقوله (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً..) وذكر من بينها (إذا اؤتمن خان)، وفي حديث آخر رواه مسلم وأبو داود قوله صلى الله عليه وسلم: (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوق فهو غلول يأتي به يوم القيامة)، فحفظ الأمانة وتأديتها وجعل ذلك من أخلاقياتنا وسلوكياتنا يعد أمراً ضرورياً إذا ما أردنا رضا الله وطاعته ونيل محبة رسوله الكريم ومودة الآخرين والسعة في الرزق والفوز بالجنة. ولا أخال عليكم أن هناك الكثير من الوقائع الحية التي لمسناها بأنفسنا داخل هذا المجتمع وهي تبين ما آل إليه بعض الناس ممن خولت لهم أنفسهم من خيانة الأمانة التي أودعت لديهم أو وقعت تحت أيديهم فكان مصيرهم الفقر والبؤس والضياع فضلاً عن القلق والاضطرابات النفسية وترددهم على بعض المستشفيات على إثر ما حل بهم من اشكاليات مادية ونفسية.. ولقد صدق رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم حينما قال: (الأمانة تجلب الرزق والخيانة تجلب الفقر)، وهو ما عبر عنه الشاعر كعب المزني بقوله:
أرعى الأمانة لا أخون أمانتي إن الخؤون على الطريق الأنكب |
في السياق نفسه لا بد أن نوضح هنا ومن باب تعميم الفائدة أن الأمانة لا تقف عند حد الأموال أو السلع أو المواد والأشياء المستعملة، وإنما تتجاوزها إلى كثير من أمور الحياة وأنشطتها المتعددة والمتنوعة، فالحديث إلى الناس بالكلمة الصادقة والقول السديد أمانة، وإعطاء كل ذي حق حقه من الطلاب والطالبات من الدرجات المستحقة لهم دونما نقص أو زيادة يعد أمانة، كما أن تطبيق الأنظمة واللوائح بشكل عادل ومنصف على جميع الموظفين أو العاملين داخل كل إدارة حكومية أو مؤسسة وشركة خاصة وتقييمهم بشكل صحيح لا إبخاس فيه فيقع عليهم الظلم ويصيبهم الاحباط ولا محاباة فيه فينتج عنه ربما التراخي والكسل خاصة في حالة اعتياد بعض هؤلاء الموظفين عليه ولو بأقل جهد يقومون به كما يحدث ذلك في ظل الإدارة الفوضوية والترسلية يعد هو الآخر أمانة، ومثل ذلك في حالة تزويج فتاة بعينها بحيث يوضح ولي أمرها للخاطب ما بها من عيوب خِلقية (بكسر الخاء) أو إعاقة حتى يكون هذا الخاطب على بينة من أمره يعد أمانة. على صعيد آخر نحسب أيضاً أن نقل المعلومات أو الأفكار أو التجارب العلمية من كتاب أو أي وسيلة أخرى كالاشرطة المسجلة أو الانترنت ولكن دونما اشارة صريحة لأصحابها كنوع من التوثيق والأمانة العلمية يعد خيانة فكرية أو سرقة أدبية إن صح هذا التعبير، وهو التصرف الخاطئ الذي أجمعت عليه الأنظمة الدولية بتوقيع العقوبة الرادعة على مرتكبه وذلك من أجل الحفاظ على الحقوق الفكرية لأصحابها، هذا من جهة، ولكي يتعود من أراد البحث والتقصي في ميادين العلوم والفنون المختلفة السير وفق هذه المنهجية الصحيحة لإعداد أبحاثهم من جهة ثانية، وفي هذا منفعة عميمة للمجتمع من حيث كونها تساهم وبشكل كبير في زيادة أعداد الباحثين في الوطن الواحد وفي أيضا زيادة محصلتهم المعرفية والثقافية التي تتطلبها حياتهم العلمية والعملية، وهو الأطار الصحيح الذي ينبغي ان ينظر اليه كل من اراد الحصول على شهادة علمية معينة او مرموقة بحيث يكون بمنأى عن كل غش وخديعة وتزوير، فلا يظلم نفسه ولا يبيع ضميره ويضيع أمانته وغير ذلك مما يحمله هذا السلوك من معاني الإبخاس بحق الآخرين ممن هم جديرون ببعض الأعمال الوظيفية ولكن ظروفهم حالت دون حصولهم على مثل هذه الشهادات؛ الأمر الذي كان من شأنه أن مُكّن أؤلئك الاشخاص من الإحلال محلهم الذين هم ربما يكونون في مستوى أقل من القدرات المطلوبة لتلك الوظيفة ولما تقتضيه المصلحة العامة للوطن، ولكن شهاداتهم خولت لهم ذلك. فما أحوجنا إذاً إلى مثل هذه الأمانة في ظل هذه المنهجية العلمية السليمة التي ترقى على أساسها الأمم وتتطور وتزدهر، ولندرك سوياً ومن جانب آخر أن الترويج الكاذب عند بيعنا سلعة معينة كالسيارة مثلاً على الرغم مما فيها من خلل أو قصور في الأداء يعد خيانة لهذه الأمانة؛ إذ يترتب على هذا الترويج الكاذب أو الخادع حدوث ما لا تحمد عقباه من الضرر والهلاك ما الله به عليم، كما أن عدم إعادة المقترض ما اقترضه من أحد صناديق الاستثمار التي أوجدتها الدولة - رعاها الله - في بلادنا من أجل التسهيل على مواطنيها لتشييد مبان سكنية خاصة بهم أو غيرها من الأمور التي يحتاجونها لغرض الزراعة أو الصناعة يعد خيانة لهذه الأمانة ما لم يقم المقترض بسداد ما عليه من أقساط لهذه الصناديق بحسب ما اتفق عليه.
علماً بأن السداد المبكر للصندوق من قبل المقترض يعني الشيء الكثير بالنسبة إلى غيره من طالبي الاقتراض الجدد، وأنه لخليق بالمقترض مع هذه الحال أن يفعل ذلك من مبدأ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب لأخيك ما تحبه لنفسك..) قال البيهقي رحمه الله: الدنيا خضرة حلوة من اكتسب فيها مالاً من حلة وأنفقه في حقه أثابه الله عليه وأورده جنته، ومن اكتسب فيها مالاً من غير حله وأنفقه في غير حقه أورده الله دار الهوان، ورب مُتخوّض في مال يكون مصيره النار يوم القيامة.
فعلى الذين يتهاونون في أمر الأمانة ان يعوا جيداً هذه المعاني السامية لهذه الأمانة، وذلك بالتجرد من أهوائهم النفسية وإغواءات الشيطان لهم، وهذا ما لا يمكن التخلص منه إلا بتقوى الله ومراقبته في السر والعلانية وهو ما نحسبه المنطلق الاساسي ليقظة الضمير ومحاسبة النفس. ولعلى قبل الختام أن أشير إلى ما نشرته هذه الصحيفة في عددها (12308) تحت عنوان (125 مواطناً يعيدون (52) مليون ريال إلى خزينة الدولة)، وهو الخبر الذي في اعتقادي أنه أسعد الجميع على هذه الأرض المباركة، ليس فحسب لإعادة هؤلاء المواطنين الأموال التي أخذوها بقصد أو بغير قصد من أماكن عملهم، وإنما فيما بلغه هؤلاء المواطنون من محاسبة دقيقة لضمائرهم، فكانت هذه النتيجة الطيبة التي ستكون بحول الله وقوته لها الأثر الإيجابي على مجريات حياتهم اللاحقة من الاستقرار النفسي وراحة البال والسعادة إذ أقدموا وبشجاعة تامة على إبراء ذمتهم بما ليس لهم حق فيه، فنعم ما فعلوه من عمل صالح يشكرون عليه، ويا ليت يحذو حذوهم كل من أخذ مالاً من حرام سواء من خلال التداول بالأسهم أو الجمعيات الخاصة التي اندفع اليها بعض الناس من جراء ما زين لهم من ربح سريع ومشروع تحت طائلة الثقة المتبادلة التي كان من نتائجها حصول كثير من الانتكاسات الصحية والنفسية للمساهمين فيها.. فيا ليتهم ينتبهون لذلك ويعيدون لأصحاب هذه الأموال حقوقهم، فاليوم عمل بلا حساب وغداً حساب بلا عمل، وليتصور كل واحدٍ منا كيف يكون مصيره عندما ينتهي به الأجل ويوضع في حفرة ضيقة مظلمة شديدة الحر، فلا أموال تنفع وأين هي في تلك اللحظة ولا بنون ينقذون أو يؤنسون ولا مكيفات تخفف عنهم وطأة ذلك الحر، ولا توبة تقبل، فقد فات الأوان، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني). وهكذا ينبغي علينا جميعا أن نفعل، فما الحياة الدنيا الا متاع الغرور، فطوبي لمن طاب كسبه وصلحت أحواله وسريرته وكفى الناس شره. والله هو ولي التوفيق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
|