* الجزيرة - خاص:
هناك فرق بين الداعية الذي يجذب المدعوين ويؤثر فيهم، ويجدد في خطابه الدعوي ويتلمس حاجات المدعوين، وبين الداعية (الموظف) الذي يؤدي دوره الوظيفي فقط دون النظر إلى حالة المدعوين وما يريدونه والقضايا التي تشغلهم!
ومن هنا لا بد من التفرقة بين داعية تنطبق عليه المواصفات المطلوبة وآخر يفتقد إلى هذه المواصفات، الأمر الذي يجرنا إلى الحديث عن المواصفات المطلوبة في الداعية ليكون أكثر تأثيراً في الناس، والأنموذج الحسن.
وفي هذا التحقيق نستعرض آراء بعض الدعاة والتربويين في التعرف على مواصفات الداعية.
العقائد قبل العبادات:
في البداية يقول الدكتور عماد بن زهير حافظ الأستاذ المشارك بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: إن الداعية إلى الله تعالى هو ركن الدعوة الذي لا تقوم إلا به، فإن كان مالكاً وحائزاً صفات عالية رفيعة مميزة كان مؤهلاً لحمل الدعوة، وإيصالها إلى الناس واستجابتهم له، وبمثله تقوم الدعوة إلى الله، وبه يهتدي المهتدون ويقتدون وحسب الداعية أن ينظر ويتأمل فيما كان عليه سيد الدعاة النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام من صفات وسمات فيتخذها من بعد سلوكاً له وأسلوباً في حياته وطريقة في دعوته، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، ومن تلكم الصفات التي لابد من توافرها عند الداعية صفة الحكمة، إذ إن رجل الدعوة حكيم في أقواله وتصرفاته وجميع أحواله، ومن حكمته ترتيب أولوياته فهو يقدم الأهم على المهم، ويركز في دعوته على العقائد قبل العبادات، والأخلاق والفرائض قبل المندوبات والنوافل ودرء المفاسد على جلب المصالح، هذا وأن الحكمة تصاحبه في مخاطباته وتعاملاته مع مدعويه والناس حوله {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}، ذلك أنه يتعامل مع نفوس بشرية مختلفة لها طبائعها وسلوكياتها وأفكارها المختلفة من كل الجوانب، وهو سيقابلها ويوجه إليها دعوته، فكيف إن لم يتصف بالحكمة فإنه ولا شك سيفشل في مهمته معهم، ومن صفات الداعية كذلك التي ينبغي أن تتوافر لديه وهي صفة مهمة وتأتي في مقدمة الصفات الدعوية وهي أن يكون قدوة لغيره، إذ الدعوة لا تقوم إلا بالأعمال لا بالأقوال فقط، والناس بحاجة إلى قوة تدفعهم إلى الأمام ولا تقهرهم إلى الخلف، في حاجة إلى قدوة تجعلهم يؤمنون بمصداقية هذا الدين الحنيف الذي يحمل أصحابه على الالتزام بتعاليمه وشرائعه قبل أن يأمروا به الآخرين }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} وذلك لأن من طبيعة البشر وفطرتهم أن يتأثروا بالمحاكاة والقدوة أكثر مما يتأثرون بالقراءة أو السماع خاصة في الأمور العملية، ولا ريب أن أولى خطوات الداعية في دعوته والتي تقرب الناس إليه وتدعوهم إلى الاستجابة له أن يكون قدوة في ذاته فيفعل ما يقوله لهم ويقوم بما ينصحهم به عطر السيرة بينهم، وظاهره يوافق باطنه لا ازدواج في شخصيته، والله إنه ما يشوه صورة الدعوة وكمالها وجمالها ويفقدها مصداقيتها عند المدعوين إلا حين ينفصل العلم عن العمل والفكرة عن التطبيق عند بعض الدعاة.
المرأة القرآنية:
وتتناول الدكتورة مها بنت محمد العجمي عميدة كلية التربية للبنات بالأحساء مواصفات الداعيات فتقول: إن الدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ومسلمة، كل بحسب طاقته وعلى قدر استطاعته {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، ولا فرق في الدعوة إلى الله بين الرجل والمرأة، فرسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها..)، وقد استوعب الجيل الأول من أمهات المؤمنين والصحابيات الكريمات ومن تبعهن بإحسان هذه المهمة وأدوا الأمانة حق أدائها، فكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تفتي النساء في أمور دينهن وتنقل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد وعته جيداً خصوصاً فيما يتعلق بسلوك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيته ومع نسائه حتى قالت حين سئلت عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن).
وكذلك كان نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل حفصة بنت عمر رضي الله عنهما التي استفتاها أبوها أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الأمور المتعلقة بالنساء مثل غياب الرجل عن زوجته وبنى على رأيها حكماً بشأن غياب المجاهدين في سبيل الله عن ذويهم وأهليهم في الفتوحات الإسلامية، حتى لا يلحق النساء عنت من جراء غياب أزواجهن، حتى ولو كان ذلك بسبب الجهاد في سبيل الله، لأن دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة، وقد احتذت نساء السلف الصالح حذو أمهات المؤمنين في الدعوة إلى الله فكان منهن معلمات القرآن والحديث والفقه، وكتب التراجم زاخرة بأسماء أعلام النساء ممن أسهمن في بناء نهضة الأمة وحملن راية الدعوة إلى الله إلى جانب الرجال في شتى أنحاء البلاد الإسلامية على مر العصور، حتى إن بعض الباحثين خص المرأة بتأليف مستقل بلغ عدة مجلدات.
شقائق الرجال:
وتضيف د. مها العجمي: إن النساء شقائق الرجال، لا فرق في الصفات والأخلاق التي ينبغي أن تتحلى بها المرأة الداعية إلى الله عن أخلاق الرجل وصفاته فحديثنا يشملهما معاً وإن تحلى بنون النسوة لمناسبة المقام، فالمرأة الداعية ينبغي أن تقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل صفاته وأخلاقه ما وسعها الجهد حتى تكون - إن استطاعت - قرآناً يمشي على الأرض، فهو الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة، وصدق الله العظيم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}، كما يجب على المرأة الداعية أن تتحلى بأخلاق أمهات المؤمنين من العفة والطهارة والالتزام بأخلاق الإسلام الفاضلة ومثله النبيلة، حتى تكون داعية بالقدوة أولاً قبل أن تدعو بالكلمة فلن تؤثر المرأة الداعية في بنات جنسها أو في أبنائها وبناتها ما لم تتمثل ما تدعو إليه سلوكاً وأخلاقاً تجسدها أمام الجميع دون تكلف، وحينئذ تؤثر بسلوكها وأخلاقها قبل أن تؤثر بكلماتها.
هذا أمر أحببت أن أركز عليه لأهميته القصوى وضرورته البالغة بحيث لا تستغني عنه الداعية، ثم إنه ينبغي على الداعية في هذا الجانب أن تكون مخلصة غير مرائية بحيث يتوافق مظهرها وسلوكها مع مخبرها وأخلاقها، وأن تجتهد في ذلك قدر استطاعتها فالله - عز وجل - إنما يتقبل من المتقين الذين يخشونه في السر والعلانية، وهنا يكون تأثير الداعية في مدعواتها لأنها تجسد ما تدعو إليه، كما أنه يجب أن تتسم الداعية بحب من تدعوهن فالحب يفتح مغاليق القلوب، وأن تحرص على هدايتهن وأن تكون بهن رحيمة فلا تغلظ لهن القول ولا تتجهم بل تكون باسمة مجاملة رقيقة القلب بحيث تجذب إليها المدعوات فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم كما وصفه ربنا عز وجل -: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ{فلم يكن يتعالى على قومه فهو منهم ويعز عليه ما هم فيه من انحراف في العقيدة والمنهج والسلوك وهو حريص عليهم وعلى هدايتهم وإنقاذهم من النار، ثم إنه رؤوف رحيم بالمؤمنين بربهم والتابعين له في دعوة الحق، كما يجب أن تكون الأخت الداعية إلى الله أنيقة في غير تكلف وأن تمتاز بالكرم والعطاء المادي والمعنوي، وأن تضحي براحتها في سبيل خدمة الآخرين، وأن تبذل قصارى جهدها لتنجح في حياتها العملية والأسرية، فتقوم بواجبها حيال زوجها وأبنائها خير قيام حتى تكون قدوة لغيرها، فليست داعية ناجحة من تقصر في شؤون بيتها وتهمل رعاية زوجها وأبنائها، بل على العكس قد يؤثر ذلك بالسلب في دعوتها، وإذا كانت الداعية موظفة كما هو شأن الكثيرات اليوم فعليها أن تكون قدوة في عملها، تقوم به خير قيام، وتتحبب إلى زميلاتها وتساعدهن في أعمالهن إن استطاعت وتشفق على مرؤساتها فلا تكلفهن من العمل ما لا يطقن، كما تنصح لرئيستها، فيما يعود على العمل بالارتقاء والنفع، وتسعى في الخير لزميلاتها، ولا تشي ولا تنم ولا تهمز ولا تلمز ولا تغتاب، فهذه أمور مذمومة من المسلمة فضلاً عن الداعية، وإذا كانت رئيسة فعليها ألا تسمع للساعيات بالنميمة وأن تتثبت قبل أن تتخذ قراراً قد يؤذي الأخريات وأن تتخذ بطانة صالحة ممن يتقين الله حتى يكن عوناً لها على الخير، فالله عز وجل أمر نبيه الكريم - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
وعلى الأخت الداعية كذلك أن تتعلم فقه الأولويات وأن تدرس أحوال المجتمع جيداً فلا تكون بمعزل عن مستجدات العصر ونوازله، وأن تثقف نفسها قدر استطاعتها، وأن تجيد اللغة العربية الجميلة وتحفظ قدراً من الشعر الجميل لتؤثر في مدعواتها، فضلاً عن ثقافتها الدينية من قرآن وحديث وفقه وغير ذلك.
سيرة السلف
ويرى الشيخ محسن بن سيف الحارثي عضو الدعوة والإرشاد بنجران أن الدعوة إلى الله واجب الأمة وهي من أهم الأمور وذلك لعظم قدرها ورفيع درجاتها عند الله فالواجب على المسلم الذي نصب نفسه داعية إلى الله تعالى التحلي بالخلق الحسن لأن الأخلاق من مقاصد البعثة المحمدية التي أكرم الله بها الإنسان في الأرض كلها وخص المؤمنين بخصيصة منها ليست لسواهم حيث هداهم الله بها إلى السراط المستقيم وزكى نفوسهم وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}، التزكية المذكورة في الآية الكريمة تشمل تزكية النفس وتربيتها على معالي الأخلاق، وإذا كان التحلي بالخلق الفاضل واجباً على آحاد المسلمين فما بالك بالداعية الذي يحمل راية الدعوة وشعارها وينادي بها بين الناس؟ فالداعية الذي يتصدر للدعوة إلى الله - عز وجل - لا بد له من أن يتحلى بأمور هي: الصدق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}، ويكون منهجاً عاماً في شخصية الداعية في أقواله وأفعاله الظاهرة والباطنة، وكذلك من الصفات التي ينبغي للداعية التحلي بها الصبر، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، قال سفيان: (بالصبر واليقين تنال الامامة في الدين والذي لا يصبر ولا يتحلى بهذه الصفة فإنه من السهل أن يتخلى عن دينه لأي شيء يعترض طريقه ومن السهل أن يتخلى عن منهجه، وكذلك من الأمور الواجب على الداعية التحلي بها التواضع وهي معرفة المرء قدر نفسه وتجنب الكبر الذي هو بطر الحق وغمط الناس).
وكذلك الداعية لا بد أن يملك قلباً حياً يحترق على إخوانه المسلمين وعلى هدايتهم وإيصال الخير إلى قلوبهم لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص وعليه ان يحزن لأخطاء المسلمين وانحرافهم عن الدين فيحزن لانتشار الفسق والمعاصي بينهم حزناً لا يدفعه لاعتزالهم بل يدفعه لأن يشعر أنه الطبيب ويحاول إنقاذهم والداعية لا بد أن يكون قدوة لغيره بأن يتجنب المكروهات وفضول المباحات وما لا يحتاج إليه، وأن يكثر من قراءة كتب السلف الصالح ومواقفهم المشرفة الدالة على تحمسهم البالغ إلى الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
|