الإنسان يتأثّر بمن حوله .. هذا ما أكدته الأبحاث وصدقه الواقع!!
أمّا أشد المراحل العمرية تأثُّراً فهي مرحلة الطفولة نظراً للقابلية لدى الطفل للتأثير فيه، ولذا من الطبيعي جداً أن يتمثِّل ما يراه ويسمعه.
ونظراً لكثرة المتغيّرات فيما حولنا وتجدُّدها - سواء في الاتصالات أو الإعلام أو الألعاب - أصبح المربُّون والوالدان في حيرة من أمرهم أمام هذه المتغيّرات العالمية والمحلية، إذ دخلت البيوت، واستهلكت الأموال والأوقات، ناهيك عن التأثير في العقول والنفوس!!
وإذ إنّ الآباء والأمهات يفرحون بما يشغل أولادهم الصغار عنهم ويكف صراخهم ويقلِّل من (وجع الرأس لهم) فإنّهم قد وفّروا لهم ما يشغلهم ويلهيهم، فهل وعي الوالدان ما يفعلان؟
ولو سأل الواحد نفسه لمَ جلبت هذه الوسائل وغيرها للأولاد؟ لأجاب - غالباً - بإحدى خمس إجابات:
1 - كجوائز لهم وثواب لعملهم.
2 - مماثلة لأقرانهم وتقليداً لهم.
3 - لقضاء وقت الفراغ.
4 - لإجلاسهم في البيوت.
5 - لتقليل إزعاجهم وصراخهم.
ويلاحظ عموماً - في هذه الإجابات - عدم وجود أهداف تعليمية أو تربوية واضحة في ذلك .. ولذلك أهمس هنا في آذان المربين والوالدين والمسؤولين وأطرح عليهم هذه الأسئلة:
- ما نوعية هذه الوسيلة التي جلبتها لأولادك؟
- ما هي المواد التي تعرض في هذه الوسيلة؟
- كم من الوقت الذي يجلسونه أمامها؟
- هل تجلس معهم أثناء جلوسهم أمامها؟
- هل تتناقشون فيما يشترون أو يشاهدون مناقشة إقناعية هادفة؟!
أسئلة متعدِّدة تبحث عن إجابات .. والجواب ماثل أمامنا في واقع الأُسر والبيوت .. وإن كانت الإجابة في معظمها محزنة وللأسف!!
ولعلِّي هنا أسلِّط بعض الضوء على وسيلة واحدة ألا وهي الألعاب (الإلكترونية وألعاب الفيديو) التي تتميّز بالسرعة والجاذبية لعقل الطفل وبصره، فقد أصبحنا نعيش في السنوات الأخيرة مرحلة - كما يسميها الباحث د. منصور العسكر -: مرحلة التسابق في صناعة المواد الترفيهية الخيالية المعتمدة على التقنيات العالية، حيث حققت واحدة من أشهر الشركات العاملة في مجال صناعة هذه الأجهزة، من أول ظهور لها في عام 1994م، نسبة مبيعات متصاعدة وصلت إلى أكثر من (73 مليون وحدة) مما جعلهم أشهر صانعي الألعاب في العالم.
وذكرت جريدة الحياة 20-9-2003م: (أنّ ألعاب الفيديو المتهم الجديد في تأطير العقل والإجرام إذ أنتجت الشركات فيلماً فيه ذبح وقتل، بيع منه 20 مليون نسخة!)
وتلتهم هذه الوسيلة مئات الملايين من الريالات، وتربح الشركات أرباحاً عالية جداً ببرامج ومواد يغلب عليها تربية اللاعبين والمشاهدين على الوحشية والعنف والقتل، لأنّ معظم هذه الألعاب تعتمد اعتماداً مباشراً على فكرة الجريمة والقتل والدماء، حتى إنّ من أسمائها: (ليلة العفاريت)، (روبي آكل اللحوم)، ويكثر فيها إشاعة الصور العارية وتعويد اللاعبين عليها بدعوى أنّها لعبة مثل لعبة (قتل العاريات) التي تتضمّن مشاهد خلاعية، وألعاب المصارعة التي حشرت فيها المصارعات وهن كاسيات عاريات، وهذان الأمران وغيرهما مما ترسخه بعض الألعاب الإلكترونية!
وجدير بالإضافة ما ذكره د. فهد الراجحي نموذجاً من أشكال تصدير ألعاب الإرهاب إلى السعودية بسعر رخيص، بينما سعره في أوروبا وأمريكا بنحو (200 ريال) - أي ما يعادل (35.3 دولارا) - وهو منتشر في بيوتنا كانتشار النار في الهشيم .. على أنّه برنامج وتدريب على أشكال الاغتيالات وأعمال القناصة بشكل مشين .. الخ.
هذا، وقد أصبح المجتمع البريطاني على حدث مروع في 29 يوليو 2004م إثر قتل مراهق صبياً بالفأس والسكين تقليداً لما يراه في البلاي ستيشن، حيث بدأ اللعبة باستدراج الصبي لحديقة قريبة ثم ضربه بالفأس فلما رأى الدم يتفجّر منه أكمل عليه بالسكين معترفاً بعد ذلك بأنّه يطبق ما يراه في البلاي ستيشن!، وليست هذه فحسب، بل هناك عشرات الألعاب التي زيّنتها (التنكلوجيا المركبة) بدون مراعاة للعقول والآداب والقيم!
لعبة أخرى تسمى martal kombat، تصوِّر أحد أبطالها وهو يفصل رأس الضحية عن جسمه، والآخر يصعقه كهربائيا، وثالثاً يمزقه إرباً حتى إنّ قلبه الخارج من صدره ما زال ينبض يقطعه بكلتا يديه العاريتين!!
أمّا لعبة Nite Trap فهي تصور مصاصي دماء متعطشين يتتبعون خمس نساء وينتهكونهن ويحفرون في رقابهم حفراً بأداة كهربائية ثم يعلِّقونهن كالذبائح من أسفل لأعلى!!
إنّ ذلك وغيره يتسمَّر أمامه الأطفال لعشرات الساعات، ولقد ذكر بعض الباحثين أنّ الأطفال يجلسون أمام تلك الوسيلة ومماثلها من القنوات الإعلامية المتحركة 1000 ساعة سنوياً، ثم عشرة آلاف ساعة خلال سني المرحلة الابتدائية والمتوسطة، أي ما يعادل نصف ما يجلسونه في حجرة الدراسة ومحاضن التعليم، وهذا مؤشر خطير لأنّ هذه المرحلة من العمر هي مرحلة الحيوية والتلقِّي وحفر العادات والسلوكيات كما ذكرنا آنفاً!
وأبان بعض الباحثين - كالراجحي -: أن التعرُّض للألعاب الإلكترونية لفترات طويلة واللعب المفرط له تأثيرات سلبية من أهمها:
1 - السلوك الدمائي الوسواسي.
2 - نزع (الإنسانية) عن اللاعب.
3 - نزع إحساسه وشعوره.
4 - اغتيال براءة الطفل.
5 - تغييرات سلبية في الشخصية (كاضطراب التعلُّم).
6 - حالة من التوتر الاجتماعي ومعاداة الآخرين.
وهذا غيض من فيض عن وسيلة واحدة من وسائل الترفيه لدى الأطفال، فكيف إذا بسطنا الحديث عن تكملة المثلث الخطير المكمل للألعاب الإلكترونية وهي الحاسب والفضائيات (التلفاز) والتي يتعاطاها الأطفال وأثرها عليهم؟! خاصة إذا علمنا أنّ 63% من الناس لديهم القنوات الفضائية في بيوتهم وفق استبانة حديثة منشورة، أما الحواسيب فلا يكاد يخلو بيت منها!
قد يقول قائل بأنّ هذه الوسائل لها بعض الإيجابيات كرفع قدرة الطفل على القراءة والكتابة والتعبير الشفوي، والقدرة على الاستماع، وتعلّم الثقافة والعلوم، لكن في الوقت نفسه فإنّ سلبيات طرحها هكذا للأطفال أدى لبروز آثار مدمرة عليهم!
* فأمّا الآثار العقدية: فهي تختل الموازين لديهم؛ حين يرى الطفل رجلاً يطير بالهواء وينسف الجبال ويشق القمر بل ويفعل أشد من ذلك فبعضها يقتل العقل والمعرفة والحق في خيالات بعيدة عن الواقع، كما في الألعاب والأفلام كما في قصة (سوبرمان) و(بات مان) و(ميكي ماوس) و(سندريلا) وكلها مملوءة بأخلاق أهلها وفكرهم وخيالاتهم وثقافاتهم التي تخالف أصالتنا وثقافتنا وديننا.
* وأمّا الآثار النفسية: فهي أنّ هذه الأفلام والألعاب تبذر الخوف والرعب والقلق في نفوس الأطفال، لما يراه من أفلام الرعب والشياطين وغيرها، وقد أكد ذلك آلاف الأبحاث في أمريكا وغيرها .. وكل ذلك يسلب أمن الطفل النفسي!!
* أمّا الآثار الاجتماعية: فهي حين ينفصل الطفل عمن حوله تماماً ويصبح أسيراً لما يشاهده، ويقل التفاعل بينه وبين من حوله من الوالدين والإخوان، بل بعضهم - كما هو مشاهد - تقدم الوجبة له فيقوم للعب، والنمو الاجتماعي يحتاج الطفل كما هو معلوم خلطة وتفاعلاً.
* أما الأثر الصحي: فنتيجة لقلة الأداء الحركي المرن يصاب الطفل بالتهابات المفاصل والزيادة المفرطة بالسمنة وتدني مستوى النظر، والتغير في كيمياء الجسم السلبي نتيجة التأثُّر بالمشاهد والألعاب.
* وأمّا الأثر التربوي: فهو خطير جداً، وهو لا يظهر مباشرة وإنما على مر السنين، إذ ذلك كله يؤثر على شخصية الطفل، وتهيئته للانحراف من جراء مشاهدة الأفلام والألعاب التي تصور الكذب والخداع والمراوغة على أنّها خفة ومهارة .. وتنزع للحياء والأدب من قلوبهم!
إنّ هذه الآثار وغيرها جعلت بعض الدول والجمعيات والأفراد يتنادون لمواجهة ذلك بالتوعية تارة وبالقانون تارات أخرى، حفاظاً على فلذات الأكباد .. ومن أوائل الدول في مواجهة هذا الزحف خاصة الألعاب الإلكترونية - استراليا، وفي الطريق دول أخرى، أمّا الجمعيات فللأسف هناك صمت مطبق من المؤسسات الرسمية وغير الرسمية باستثناء جمعيات حقوق الإنسان والطفل التي بدأت تدرك أهمية مواجهة ذلك، في الوقت نفسه ترى بعض المشرعين في هذه البلدان المصدِّرة لهذه الألعاب يساندون الشركات المنتجة بحجة أنّ هذا نوع من الترفيه، وكتطبيق لذلك تحرك بعض البرلمانيين في أمريكا لوضح حد لهذه الألعاب الإجرامية ورفعوها قانونياً فساندتهم المحكمة فصودرت بعض الألعاب ك Nite Trap ومعظم الألعاب نظمت حسب الأعمار ما دون 15 أو فوقها .. ويقيسها بعضهم على مهزلة وضع العبارة (المخدرة) على السجائر بأنّه يضر بالصحة، ويباع رسمياً، ولا يصدر قرارات حازمة ما دام أنه ثبت علاقته بالسرطان والأمراض النفسية.
إنّ صحة المواطن حتى لو كان طفلاً لا تهم ما دام أنه سيجني أرباحاً طائلة والدولة تلتهم ضرائب عليه!!
ولا يعني كلامنا هذا المنع مطلقاً وحظر جميع هذه الوسائل على الأبناء، إذ هذا ليس عملياً مطلقاً، ولكن لا بدّ من التفاعل بحذر وفق الضوابط العملية التالية:
1 - التوجيه العام للأطفال من قِبل الآباء والأمهات ووسائل الإعلام والتعليم.
2 - البحث عن الشيء والاطلاع عليه قبل عرضه عليهم.
3 - إيجاد البديل المناسب من ألعاب ترفيهية وأفلام (كرتونية) وهذا متوفر لقنوات وبرامج حاسوبية.
4 - تعويدهم على تقنين الجلوس أمام تلك الوسائل حتى لو هي مفيدة فالجلسات التي لا يكون فيها الطفل متفاعلاً وإنما - دائماً - مستقبلاً( تميت فيه الاجتماعية والإبداع والتفاعل.
5 - إشاعة روح الإقناع والمنافسة حول ما يعرض والحوار حول سلبياته وإيجابياته.
6 - إيجاد وسائل ترفيهية ومسلية أخرى مساندة وتنقلهم من جو (الشاشات) إلى جو (البشاشات) أي لقيا الوجوه.وهناك مسؤولية كبرى على مؤسسات الدولة والقطاع الخاص لتخصيص برامج إعلامية وتربوية وترفيهية مناسبة للأطفال في الإعلام والتعليم وتوفرها بالأسواق وتدعمها .. كذلك هناك كفل على المتخصصين والمثقفين والدعاة بمناقشة هذا الموضوع وطرحه وإثارته وإيجاد حلول مناسبة حفاظاً على الناشئة ورجال المستقبل.
والحمد لله رب العالمين.
|