Friday 21st July,200612349العددالجمعة 25 ,جمادى الثانية 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

غرس قيمها يبدأ بالطفولة غرس قيمها يبدأ بالطفولة
نظمنا المؤسسية الحديثة وطوفان الشخصنة الجارف
د. صالح بن سبعان (*)

رغم أن الكثير من الدول النامية وبخاصة العربية والإسلامية وبينها المملكة أرست مؤسساتها بشكل راسخ على نمط الدولة الحديثة، مجذرة بنيانها على هدي الإسلام، مستهدية بقيمه الخالدة، إلا أن المشكلة التي لازالت تعاني منها هذه الدول والمجتمعات معاً، هي هذا التناقض بين بُنى مؤسساتية حديثة، تدار على نمط السلطة الإدارية (المشخصنة).. أي بين بنى مؤسساتية حديثة، ولكنها مفرغة من مضامينها المؤسساتية تماماً.
وحين نحاول تشخيص هذا التناقض، أو هذه المشكلة، فإننا نجد أن العلة تكمن في غياب العقلية أو الذهنية المؤسساتية، التي تعرف كيف تتعامل مع الكيان المؤسساتي، وعلى دراية بقوانينه وآلياته.
ويتجلى تأثير هذا التناقض في الطريقة التي تدار بها المؤسسات حيث تتحول المؤسسة إلى (دائرة) خاصة، أو إقطاعية خاصة توظف في خدمة رأس هيكلها الإداري.
وفي ظل وضع كهذا، فإن الانتساب للمؤسسة إنما يكون في جوهره انتساباً إلى شخص المسؤول، وبالتالي فإن ولاء الموظف العامل في المؤسسة إنما يكون للمدير أو للشخص الذي سهل له عملية الحصول على الوظيفة، وليس للمؤسسة.
ويتحرى الموظف في هذه الحالة (رضى) المسؤول حين يعمل، وعينه على رضاه، والذي قد لا يكون له علاقة بمصالح المؤسسة، بل وقد يكون على تناقض معها، وقد يكون متناقضاً وأهداف المؤسسة وبرامجها.
وفي كل الأحوال، فإن أهداف المؤسسة وبرامجها تكون هي الغائب الأكبر في مثل هذه الصفقات التعاقدية بين شخصين وهما: المسؤول والموظف.
وبالطبع، فإن معيار الانتساب للمؤسسة، ومعيار تقيم الأداء داخلها سيكون مطبوعاً بطابع شخصي لا يستطيع أحد منه فكاكاً، لأن المعيار في هذه الحالة سيكون مرتبطاً بعلائق شخصية، تحكمها مزاجية المسؤول، ومدى رضاه الشخصي عن الموظف، ومدى التفاني الذي يظهره الموظف، ويبذل مجهوداً متعاظماً لتأكيده للمسؤول الذي - في حال رضاه - سيقوم بمكافأته على هذا الولاء والتفاني اللذين يبذلهما الموظف للمسؤول.
وبالطبع فإن بيئة العمل في المؤسسة ستتأثر سلباً بهذا النهج الشخصاني الذاتي، ويظهر هذا التأثير في أخلاقيات العمل، حيث يسود النفاق والتزلف والكذب والاحتيال، وبالتالي يأخذ التنافس بين الموظفين، على الترقي، طابعاً غير شريف.
ولا يمكن لعاقل أن يتوقع من مؤسسة تدار بهذا الشكل، وينخر أوصالها سرطان المحسوبية والنفاق، ويسود فيها الصراع من أجل المصالح الشخصية بين العاملين فيها أن تستطيع الحفاظ على وجودها وبقائها. دع عنك تطورها ورقيها وازدهارها.
وإن الخروج من هذا النفق المظلم والطريق المسدود الذي تسير فيه المؤسسات في هذه الدول بقطاعيها العام والخاص، لا يمكن أن يتحقق دون الارتقاء إلى مستوى الفهم المؤسساتي، وتنمية (العقلية المؤسساتية) بين مختلف القطاعات العاملة، وهي عملية اجتماعية متكاملة، ومترابطة الأجزاء تبدأ منذ الطفولة حيث يربى الطفل على الفهم المؤسساتي في علاقته بالمدرسة، والتي هي بالمقابل، في مستوى التعليم العام منها، يجب أن تعود إلى وضعها الطبيعي كمؤسسة تربوية تعليمية.
وتفعيل البعد التربوي في المؤسسة التعليمية كفيل بغرس القيم المؤسسية في عقل الطفل، إلى جانب تنمية وتطوير المهارات والقوى العملية والمعنوية، وغرس القيم الاجتماعية الفاضلة الأخرى، في عملية تربوية وتعليمية تهدف إلى بناء شخصية متكاملة.
وبالطبع فإن غرس وترسيخ أسس العقلية المؤسساتية، أو الفهم المؤسسي، يتطلب في أولى خطواته تعريف المؤسسة كبنية اجتماعية.
فالمؤسسة شخصية قانونية اعتبارية، تتمتع بكافة مقومات الوجود القانوني منفصلة عن إرادة ورغبات الأفراد الذين يعملون بها، وهي لها التزاماتها ومسؤولياتها القانونية.
والمؤسسة من الداخل لها قوانين بنيتها الداخلية، ولها آلياتها الخاصة في العمل، وقوانينها ولوائحها الداخلية الضابطة، والمنظمة للعمل، تستمد مرجعيتها من أهدافها الخاصة، وبرامجها وخططها.
إلا أن النقطة الأهم في ذلك هي أن يُفهم: بأن المؤسسة كبنية وككيان مستقل، متعالية على الأفراد الذين يعملون فيها، وذلك لسبب بسيط، وهو: إن هؤلاء الأفراد يتم استيعابهم في المؤسسة وفقاً لاحتياجاتها الخاصة، ويتم استيعابهم وفق معاييرها الخاصة، وإن هذه المعايير منفصلة عن (رغبات) هؤلاء الأفراد.
وبالتالي فإن العلاقة بين الأفراد في المؤسسة تحددها (هيكلة) المؤسسة ونظامها الإداري من الداخل، وليس (عواطف) هؤلاء الأفراد الخاصة وميولهم المزاجية حباً وكرهاً.
تضارب المصالح:
نعم ثمة فرق واضح بين الرؤيتين: فانتماء الفرد في هذه الحالة يكون للمؤسسة، بغض النظر عن من هو المسؤول، لأن هذا المسؤول محكوم بصيغة تعاقدية مع المؤسسة، تحكمها - أي هذه الصيغة - أهداف المؤسسة وبرامجها وخططها، وهو في ذلك لا يختلف عن مرؤوسه الذي تحكمه أيضاً نفس الصيغة التعاقدية.
وبالتالي فإن المؤسسة لا تتأثر سلباً في حال انتهاء أو إنهاء تعاقده مع المؤسسة، لأن ماكينة المؤسسة تدور وفق برامج وخطط لا علاقة لاستمرارها بهذا الشخص أو ذاك، مهما كان الموقع الذي يحتله في آلتها العملاقة المنفصلة عن إرادة الأفراد، لأن ما يحكم بقاء الموظف أو المسؤول ليس شخصه، ولكن (الدور) الذي يلعبه في العملية المؤسساتية.
إذن فوجود الفرد يتحقق، أو لا يتحقق، وفقاً لخطة المؤسسة، ووفقاً لآلياتها في الإحلال والتبديل.
ويترتب على ذلك - على عكس ما عليه الحال في الكيان الشخصاني - حضور المؤسسة الغالب على حضور إرادة الفرد، وسيادة وأولوية مصالحها على مصالح الأفراد العاملين فيها.
والتناقض السطحي الذي يبدو أمام النظرة المتعجلة هو تناقض غير حقيقي، إذ لا تضارب البتة بين مصالح المؤسسة ومصالح الأفراد العاملين فيها. فالمصلحة متكاملة هنا.
ومصلحة الأفراد تتحقق على النحو الكامل حين تحقق المؤسسة النجاح أو التقدم، وحين تعمل بطاقتها القصوى، في هذه الحالة تتحقق مصالح الأفراد الذين يعملون فيها.
فازدهار المؤسسة يعني بالضرورة تحقيق مصالح العاملين. في حين أنه ليس بالضرورة أن يعني تحقيق الأفراد - أو بعضهم - مصالحهم الشخصية بالضرورة ازدهار المؤسسة، فقد يكون هذا سلباً على حساب المؤسسة، وعلى حساب مصالحها وبرامجها وأهدافها.
مأسسة العلاقات:
وبالتالي ينعكس هذا الوضع المؤسساتي، على الأداء والمعايير التي بموجبها يتحرك الأفراد في فضاء الهيكلة المؤسساتي. فالأداء معاييره محددة سلفاً.
والحكم على الأداء منفصل تماماً عن مزاجية وعواطف الشخص المسؤول، وإنما تحكمه معايير ومقاييس محايدة لا تخالطها عاطفة، سواء أكانت هذه العاطفة سلبية أم إيجابية، كرهاً شخصياً أو حباً.
ويحل محل التنافس بين الموظفين لكسب رضى المسؤول للترقي في السلم الوظيفي، أو الفوز بالحوافز، ويحل محله التنافس بينهم في خدمة أهداف المؤسسة، وتحقيق برامجها، وإنجاز خططها على أكمل وجه أو بأسرع ما يمكن، مما يحفز ملكة الإبداع، ويقوي روح المبادرة الشخصية عند العاملين لتنفيذ البرامج والخطط.
الأمر الذي يستبعد التنافس غير الشريف بين العاملين أو يحقق أكمل العدالة بينهم عند تطبيق مبدأي الثواب والعقاب، ويحول دون شيوع الأمراض الاجتماعية في العمل، مثل النفاق والتحايل والكذب، وغيرها من الممارسات المريضة التي تلوث بيئة العمل وتفسدها.
وفي ظل المناخ المؤسسي تتأثر أخلاق العاملين إيجاباً، إذ تنتفي دوافع (المزاحمة) المرضية بينهم، ويتعايشون تحت ظل قوانين منفصلة عن رغباتهم تنظم العلاقات فيما بينهم، وتضبطهم، وتضبط انفعالاتهم لوائح عمل واضحة، محايدة، ومستقلة عن إراداتهم، تتعامل بمعايير منطق عملي، يجسد إرادة المؤسسة التي تعلو على كل الإرادات الأخرى.
والمؤسسية بذلك تعمل على ترسيخ مبدأ تطبيع العلاقات بين الأفراد والجماعات داخل كيانها.
وعود على بدء. فإن سائر ما نشتكي منه، أو يشتكي منه القطاع الأكبر من العاملين في مختلف القطاعات، من عدم الاستقرار الوظيفي، أو التضخم الوظيفي، أو انتشار الممارسات اللاأخلاقية في العمل، أو عطالة المؤهلين أو من يحسبون أنفسهم مؤهلين، في مقابل احتلال من لا يستحقون مواقع أكبر من إمكاناتهم وقدراتهم، أو تفشي المحسوبية، وعجز بعض المؤسسات، رغم فرص النجاح الهائلة أمامها، كل ذلك وغيره، فإننا إذا ما بحثنا في جذورها سنجد أن غياب المؤسسية، أو الفصل المؤسسي هو السبب الرئيس وراءها، وإنه القاسم المشترك بين مجموعة الأسباب الأخرى.
لقد انتهى، وإلى غير رجعة، عهد شخصنة السلطة الإدارية، ولم تعد الوظائف كما كانت في السابق يتم شغلها بمعايير عاطفية، وحلت المؤسساتية ومحل الاعتبارات (الشخصية) و(الذاتية) في إدارة الدول والمؤسسات، وقد أكملت الكثير من الدول وبينها المملكة أسس بنائها على نمط الدولة الحديثة، وأقامت المؤسسات، ولكننا حين نمعن النظر (داخل) هذه المؤسسات، نجد أن بنيتها الداخلية لا تنتظمها العلاقات المؤسسية، ولا يحكمها منطق مؤسسي، وإنما تنظمها علاقات شخصية، تتحكم فيها علاقات القربة الأسرية والصداقة، والاستمزاج الخاص، والحب والكره، وتماثل الميول، والتطابق السلوكي وغيرها من أشكال العلاقات الشخصية.
ومشكلة تفشي هذا النوع من الأسس المعيارية في المؤسسات يؤدي إلى أنماط سلوكية غير أنها تفسد بيئة العمل، فإنها وبالضرورة تؤدي إلى ترسيخ وتعميق أنماط سلوكية تهدد بتدمير المؤسسة مثل النفاق، والمحاباة، والتزلف، والتسيب الذي يضاعف حجم البطالة المقنعه في المؤسسة.
وتقابله أنماط سلوكية مضادة من أولائك المغضوب عليهم بأنهم خارج دائرة علاقات القيادة الإدرايه الشخصية، إذ يندفعون إلى إعلان السخط، والتمرد، والتحايل على النظم واللوائح انتقاماً لأنفسهم، والتكاسل لعدم وجود الرغبة والدافع عندهم وقتل روح المبادرة والإبداع عندهم، وبأنفسهم.
لنجد في النهاية أننا أمام تناقض مريع مابين مؤسسات حديثة في نظمها ووسائلها، إلا أنها - بطرقةٍ ما - شحنت أي هذه النظم الحديثة بمضامين تقليدية.
والسبب وراء هذه الكارثة هي غياب الوعي المؤسسي، وشخصنة السلطة الإدارية.
والعلاج يكمل بالتحديد هنا: بإشاعة الثقافة المؤسسية، وغرس الوعي المؤسسي بقيمه وتقاليده.

(*) أكاديمي وكاتب سعودي

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved