قبل أن أبدأ كتابة هذا المقال أكتب كلمة شخصية لكل طفل ولكل صبية ولكل شيخ وشاب من الشعب اللبناني الأنوف لأقول إننا نشعر بالحنق والخجل على ومن ما يجري عليهم من جور، ولا نملك إلا أن نحيي وقفة هذا الشعب المشرفة مع كل رفة هدب ومع كل طلعة شمس للأيام السبعة الجحيمية الماضية، ولما سيأتي من أيام تسجل مجداً جديداً للبنان في حياة ترفرف عليها راية الأرز والسلام.
طرحت وستطرح في العالم العربي الكثير من التحليلات السياسية لجريمة الحرب الوحشية التي ترتكبها إسرائيل ضد لبنان في محاولة لبلورة موقف يتم التعامل في ضوئه مع خطورتها ومع تداعياتها على الشعب اللبناني اليوم وعلى المستقبل العربي ومستقبل المنطقة في المديين المرئي والبعيد، إلا أن معظم تلك التحليلات لم تخرج عن ثلاث اتجاهات رئيسة، وهي ما يعنيني التوقف عندها وتحليلها نظراً لتأثير كل منها وإن اختلفت نسبته على تشكيل موقف الرأي العربي العام من ناحية، وعلى الرؤية والتعامل مع مجريات الأمور بالمنطقة من ناحية أخرى، وعلى تحديد طبيعة مطالبنا من أنفسنا ومن المجتمع الدولي، وإن كان يقع بين هذه الاتجاهات عدد من المواقف المشتقة منها وقليل من المواقف المنشقة عليها إلا أن أياً من تلك المواقف، سواء المشتقة من تلك الاتجاهات أو المنشقة عنها، لا تشكل تياراً في حد ذاتها فأستثنيها من الحوار وإن كنت أستثني من نقاشي أيضاً ذلك الطرح الممثل لتوجه (القاعدة)؛ وذلك لأن تحليله يخرج عن نطاق هذا المقال.
وفيما يلي أقوم بتحليل ثلاثة اتجاهات رئيسية مما أرى - والله أعلم - أن كلاً منها يشكل في نهاية المطاف أو في بدايته اختياراً مصيرياً قد يكون مختلفاً في وظائفه وآليات عمله وفي نتائجه وحصاده عن الآخر إلا أن الإنسان في هذا الحياة عبارة عن كلمة وموقف، وعليه تقع مسؤولية وأمانة الاختيار وشجاعة تحمل تبعاته.
الاتجاه الأول (والترقيم هنا إجرائي وليس تفضيلياً أو ترجيحياً) يرى أن القوة الإسرائيلية بالدعم الأمريكي والغربي هي قوة مطلقة لا رادّ لإرادتها في تشكيل أقدار المنطقة بالمقاسات التي تحتفظ فيها (دولة إسرائيل) لنفسها بدور قيادي عسكرياً وسياسياً يجعلها الشريك الأكبر إن لم يكن الأوحد للقوى الغربية وللإدارة الأمريكية تحديداً ذات المصالح الاستراتيجية بالمنطقة لإعادة صياغة المنطقة ضمن منظومة الشرق الأوسط الكبير، كما أن هذا الاتجاه يرى في المقابل عدم جاهزية العالم العربي وعدم استعداد أنظمته السياسية للدخول في مواجهة مع (دولة إسرائيل)، والتي هي في واقعها دخول في مواجهة صريحة ومفتوحة مع قطب القوة الأمريكي الأوحد وشركائه أو تحالفاته الغربية وغير الغربية. يضاف إلى ذلك تحسبه من صعود قوى إقليمية قد تخل في رأيه بالأوضاع القائمة؛ وهو بالتالي اتجاه يحاول أن يتجنب زجّ المنطقة في أي مواجهة لا قِبَلَ له بها؛ وذلك بحسب رؤيته وبحسب حساباته ومفهومه لمعنى الربح والخسارة؛ مما قد يترتب على مثل هذه المواجهة؛ ولذا فإن هذا الاتجاه يسارع لمحاولة التهدئة بدل التصعيد، ويحاول إظهار الاستكانة للقوى الغربية سواء على مضض أو بسعة صدر وعن طيب خاطر بدل المشافهة، ويحاول تغليب الجهود الدبلوماسية لتجنب المقارعة أو حتى المحاجة السياسية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وقد يلوم أيّ مصادمات يعلم أنه كان يصعب تفاديها من قبل أطراف عربية أخرى معنية مباشرة بالمواجهة، ليس لأنه يلوم أو لا يعقل موقفها، ولكنه يلوم بحكم رؤيته للموقف التي تقتضي - بحسب حساباته - ردة فعل تعنى أشدّ ما تعنى بامتصاص الغضب بقدر الإمكان وبعدم إعطاء فرصة للخصم لإظهار قوته والكشف عن وجه المجنّ الذي لا يخفي على أصحاب هذا الاتجاه أنه يخفيه تحت دعاوى الأرض في مقابل السلام أو سواها من الشعارات المرحلية التي لا تغير من طبيعة العدو العدوانية. ولا بد أن هذا الاتجاه يرى وحشية الحرب الإسرائيلية على لبنان ويدينها إلا أنه يرى - وإن صحت أو لم تصح دعواه - أنه كان بالإمكان تجنبها أو ربما على الأقل تأجيلها أو ترحيل احتمالات المواجهة لآجال غير مسماة.
الاتجاه الثاني لا يرى فقط التسليم المطلق بالقوة العسكرية لإسرائيل ولأمريكا وعجز العالم العربي المطلق أمامهما بحسب تصوراته وحساباته لكل من معنى القوة العسكرية ومفهومه للتقدم الحضاري، ولكن رأيه يذهب إلى ما هو أخطر من ذلك، وهو التسليم لأطروحتهما في رؤية العالم العربي والعالم الإسلامي أيضاً، إن لم يكن على وجه التحديد، وفي قدرتهما على إعادة تشكيل كيان المنطقة جغرافياً وسياسياً واجتماعياً وكذلك ثقافياً وحضارياً من منظور غربي محض دون أن يعنى هذا الاتجاه بالتوقف عنده، ولو لمجرد الشك بأن هذا المنظور الغربي يصدر وفق المصالح الغربية والإسرائلية معاً، وليس وفق برنامج ديموقراطي يريد تعمير المنطقة كما يدعي وكما أثبتت الأيام والآلام على أرض العراق وهم دعواه؛ ولذا فإن هذا الاتجاه لا يتردد في إعلان رعبه من الهلال (الشيعي) أو (الإيراني) في مقابل اطمئنانه أو على الأقل عدم قلقه من (النجمة الإسرائيلية) ومن الاحتلال الأمريكي بحسب التعبيرات السياسية أو الصحفية الدارجة في هذا السياق؛ ولهذا أيضاً فإن هذا الاتجاه لا يسأل ويتجنب أن يُسأل أسئلة مزعجة مثل: متى كانت إسرائيل بحاجة إلى ذريعة كاختطاف الجنديين لمبادلة الأسرى اللبنانيين لتضرب دون هوادة لبنان؟ ومتى لم تكن الذرائع جاهزة عند العدو من احتلال الجنوب إلى مجزرة قانا وما بينهما من عدوان؟ كما أن هذا الاتجاه لا يسأل ولا يجرؤ أن يسأل: لماذا لا تريد إسرائيل أي مقاومة في لبنان بل لماذا أوجد شعب لبنان أصلاً مقاومة بجنوب لبنان لولا تلك الجيرة الإجبارية التي لا تعترف لنفسها بحدود ولم تؤتمن يوماً على جيران؟ ولماذا يلتف الشعب اللبناني حول المقاومة الآن رغم ما يتعرض له من دمار وتشريد؟ لماذا تشن إسرائيل هذه الحرب على لبنان بكل هذا الحقد والتشفي وكأنها تود أن تمحو جميع اللبنانيين من على خريطة لبنان وليس مجرد الرد كما تزعم على اختطاف جنديين من جنودها؟ ولماذا تصمت أمريكا ويشاركها أعضاء قمة الثماني الكبار في السكوت على هذه الجريمة وكأنهم يمنحونها الوقت لإنجاز مهمة محددة وهي الإجهاز على نسغ المقاومة في المنطقة كلها وليس فقط الإجهاز على مقاومة الجنوب اللبناني؟ وهناك بطبيعة الحال أيضاً سؤال: لماذا ترفض إسرائيل وأمريكا اختيار الشعب الفلسطيني الديموقراطي لحماس وتريد أن تعاقبه عقاباً جماعياً على هذا الاختيار؟
الاتجاه الثالث وهو الاتجاه الذي لا تخفى عليه حالة العجز التي يعيشها العالم العربي أمام جبروت القوة العسكرية الإسرائيلية وأمام استباحة المنطقة من قبل القوى الخارجية الغازية وذروتها المتمثلة في الاحتلال الأمريكي للعراق وفي استباحة الأرض العربية جغرافياً وسياسياً باسم محاربة الإرهاب، ولكنه في نفس الوقت وبحكم تجربة المواجهة اليومية مع إسرائيل على مدى تاريخ طويل يدرك أن ما يعانيه من لي الذراع بسبب هذه الحالة لا يلزمه أن يدير خده الأيسر كلما ضرب على خده الأيمن أو أن تشل يمينه أو يتبرع ببترها استرضاءً لعدو لن يرضى. وهذا هو ما يبقي على جذوة المقاومة في فلسطين ولبنان بل إن مثل هذا الاتجاه هو ما يمثل الحق المشروع في المقاومة الذي تحاول إسرائيل بحربها الهمجية على لبنان وقبلها على غزة إطفاء جذوتها من خلال شن حرب ماحقة تؤكد لأنظمة المنطقة أن مجرد الحلم بتحديها - ولو في أحلام الصحو - ضرب من المحال الذي يجب ألا يسمحوا به أو يتسامحوا في حدوثه لأي من القوى الاجتماعية أو السياسية، وإن كان مجرد إجراء تكتيكي كأسر جنديين إسرائيليين لتبادل أسرى لبنانيين وعرب أكلت جدران السجون الإسرائيلية عرائش الشباب من أعمارهم لما يزيد على عشرين عاماً.
ونحمد الله أن هذا الاتجاه هو الاتجاه الذي لا يزال يشكل إلى اليوم موقف غالبية المكتويين أنفسهم بنيران الحرب العدوانية الإسرائيلية على لبنان وعدد من القوى الشعبية والمثقفة عربياً وعالمياً من المتعاطفين معهم؛ فالشعب اللبناني رغم أنه القابض بكفه العارية على جمرة النار وحده فقد كشف موقف غالبيته عن استعدادها للمقاومة، وعن نظرة لميزان القوى في حرب إسرائيل عليه بمؤازرة أمريكية تختلف عن تلك النظرة التقليدية التي لا ترى في ميزان القوى غير التفوق العسكري لقوة الجيش الإسرائيلي النظامي والتأييد الأمريكي المطلق لها في عدوانها حيث تقع المقاومة نفسها في صلب حسابات هذا الاتجاه لميزان القوى؛ ولذا فهذا الاتجاه يرفض أو على الأقل يبدي ممانعة قوية لتحييد المقاومة من التوازنات المستتبة لصالح إسرائيل ومنعتها التي يراد لها أن تكون دائمة وما هي بدائمة طالت المواجهة أو قصرت وجرى تجنبها مؤقتاً أو فجرتها طبيعة العدوان من ناحية، وطبيعة الكرامة الإنسانية في رفض استمرار الظلم وأسبابه من نواح أخرى، ولا غالب إلا الله.
وقبل أن أختم هذا المقال أيضاً أوجّه نداءً ليس لزعماء العالم وحدهم وليس للأمم المتحدة وحدها برفع العدوان عن هذا الشعب بل إلى المجتمع العربي وإلى مجتمعات العالم وإلى المنظمات العربية والعالمية التي تؤمن بحق العدل والحرية للإنسان بأن لا تقبل بأقل من إيقاف هذه الحرب الوحشية بتبادل مشرف للأسرى وبإقرار حق المقاومة المشروعة في الرد على العدوان بما يليق بالتضحيات الفادحة التي قدمها المدنيون في لبنان من أمن أطفالهم ومن حياة شبابهم ومن خبز يومهم.
وأخيرا أذكر بأنه لن يضيرنا - كما قال يوماً فيصل بن عبد العزيز - أن نحتفظ ببترولنا ويحتفظوا ببوارجهم وحرابهم؛ فنشد الحزام على البطون ونعود لعصر سفينة الصحراء؛ فهو أكثر براءةً وشرفاً من العيش في هذه الحقبة البربرية من عصر الغاب الإسرائيلي ومسرح العرائس الذي تنصبه الإدارة الأمريكية لنا وتريدنا أن نقع في فخه راكعين.
|