الإبداع تلك الكلمة المولعة بالتجديد المرتبطة بالتطوير المشحونة بتفاعلات نفسية وعلمية المقترنة بشيء من التوتر النفسي الذي يستولي على القوة الكامنة في المبدع، فلا يستريح حتى يجد حلاً لتساؤلاته، وتفسيراً لعلاقة الأشياء بعضها ببعض.
الإبداع كلمة ذات علاقة وذات ملامح شتى، أبين شيء فيها أنها تكشف العلاقة الحقيقية بين الأشياء وتستطيع تفسيرها برؤية ثاقبة وتوظيفها لتنتج نموذجا جديدا ليساهم في مسيرة البشرية، ويشد من أزر الحضارة الإنسانية. ولست أدري أهو من سوء الحظ أو من حسن الحظ ان المبدعين قليلون في كل مجتمع، لكنهم على قلتهم يستطيعون حمل المهام العظام ويجيدون التأمل الفاعل الذي يثري الفكر الانساني ويحسنون استخدام المعطيات الصغيرة وربطها ببعض في سبيل إنتاج نماذج جديدة في الفكر وفي المنهج والطريقة والأسلوب.
أقول هذا وأنا استعرض أمام ناظري تلك الأعمال الجليلة التي خلدها المبدعون أو خلدتهم عبر العصور المتفاوتة، وأتأمل تلك العقول التي لم تزل نابضة بالحيوية وبالقدرة على التفكير الخلاق الذي يقود المسيرة الإنسانية إلى منابر التقدم والازدهار. كان نصيبها في مرحلة من مراحل حياتها التوقف أعني التقاعد عن العمل.
هذه العقول كانت ولم تزل ثروة هائلة اكتسبت خبرات متعددة واستطاعت توظيف هذه الخبرات في أعمال إبداعية كان من نتاجها جيل من العلماء ومن المبدعين في شتى مناحي الحياة، وأتساءل.. هل من الوفاء لهذه الإبداعات والطاقات والخبرات أن توصد أمامها فرص المزيد من الإبداع والإنتاج الذي من شأنه الرقي بالمجتع إذ تحيلهم على التقاعد؟!
هل يتقاعد المبدعون؟
سؤال مفتوح أشبه ما يكون بدعوة صادقة للاستفادة من هذه العقول المبدعة وعلى وجه الخصوص في عالم التربية والتعليم، وأعتقد أن المجتمع بأسره مدعو للاستفادة من هذه العقول النيرة التي كانت ولم تزل شموعا مضيئة ستكون أكثر تألقاً واشراقاً، وقد انعتقت من براثن الروتين الإداري واستجمعت شوارد أفكارها في هدوئها النفسي وامتلاكها لوقتها وعاشت ظروفاً مواتية تساعدها على الإبداع بحرية مطلقة، وقد اتخذت من وفائها لمجتمعها مركبا تبحر من خلاله في شؤون مجتمعها. مجدافها الحب ومركبها الولاء.
أيها المتقاعدون:
إن هذه الكلمة الثقيلة بإيحاءاتها النفسية التي تحمل معنى العزلة والانقطاع عن المجتمع، ما هي إلا حافزا أكيدا على إثبات نقيض هذا الإيحاء، وإنكم قادرون بل إنكم لجديرون بهذا الشرف العظيم الذي يمكنكم من خدمة هذا الوطن الذي يشهد ثمار غرسكم ويحصد ما زرعتم، إنكم كالسيل الذي يجري في الأرض لا تعقبه إلا الخضرة والزهور اليانعة والأشجار الباسقة.
إنكم أحياء في ضمير أبناء الوطن كالشريان المتدفق وكالشلال الذي يحمل معنى النماء والخير. نعم تقاعدتم ولكن المبدع إن تقاعد عن العمل تكريماً فهو قائم في مجتمعه منارة خير وعنوان عطاء وشجرة باسقة تؤتي أكلها كل حين،
وإن المبدعين لا يتقاعدون.. حقاً إن المبدعين لا يتقاعدون..
(*) وكيل وزارة التربية والتعليم لكليات المعلمين
|