قرأت مقالاً سابقاً بعنوان (نعم.. حذارِ من المراكز الصيفية) وتعقيباً عليه أقول:
يُعد الفراغ نقطة تحوُّل في حياة كثير من الناس، وهذا التحوُّل يكون سيئاً في الأعم الأغلب، ذلك أن الفراغ يفتح الباب على مصراعيه لشياطين الإنس والجن فتتلقف هذا المسكين، وتقوده إلى عالم القلق والضياع والانحراف والمخدرات والمعاكسات و.. و.. قال الشاعر:
إن الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء أي مفسدة
ومن أجل ذلك اهتم العلماء والمربون وولاة الأمر بهذا الموضوع، وفي عصرنا الحاضر تُعتبر الإجازات الصيفية الطويلة ميداناً من ميادين الفراغ في حياة الشباب والناشئة، وحتى لا يكون هذا الفراغ سلبياً في حياتهم هرع ولاة الأمر في هذا البلد المبارك - وفقهم الله - لاحتضانهم في هذه الإجازات وإيجاد أماكن متعددة ومناشط متنوعة تشغل وقت فراغهم، ولعل من أبرز تلك الخيارات المراكز الصيفية، تلك المحاضن التربوية التي تحتضن الشباب والناشئة وتعلمهم الفضائل والآداب، وتكتشف المواهب وتنمي القدرات، وتملأ أوقات فراغهم بالجيد والمفيد (حلقات قرآنية - محاضرات متنوعة - تدريب على الأخلاق الفاضلة - صقل للمواهب وتنمية للقدرات - أمسيات شعرية - مسابقات ثقافية وترويحية - منافسات رياضية - دورات في البرمجة وعلوم الحاسب الآلي - وأخرى في اللغة العربية - دورات في الإسعافات الأولية - زيارات ميدانية لمرافق البلد ومعالم الوطن - تنمية لروح الولاء والانتماء لهذا الدين ولولاة الأمر من أمراء وعلماء ولهذا البلد الآمن المبارك)، وغير ذلك من المكاسب والمناشط والأعمال المفيدة في الدنيا والآخرة، ولأجل ذلك كله فقد حرص ولاة الأمر في بلادنا الغالية - وفقهم الله - على إقامتها، ودعموها مادياً ومعنوياً.. والغريب في الأمر أنه مع كل تلك المكتسبات المهمة والفوائد الجمة للمراكز الصيفية نرى البعض - هداهم الله - ينظرون لها نظرة سوداوية فيحذرون منها أشد التحذير، بل ويطالبون بإلغائها ويربطون بينها وبين الإرهاب والفئة الضالة، ويصمونها بالتشدد والتطرف والولاء لغير الوطن، ويطالبون بإبعاد الدعاة الدينيين عنها.. إلخ.. ولعل آخر ما قرأته في هذا الموضوع ما كتبه الأخ محمد بن عبد الله الفوزان من محافظة الغاط تحت عنوان (نعم.. حذارِ من المراكز الصيفية)، وهو تعليق على مقال سابق للكاتب الرياضي تركي بن ناصر السديري عنوانه: (احذروا المراكز الصيفية) وليسمح لي الأخوان الفاضلان وغيرهما ممن تناول موضوع المراكز الصيفية أن أعلق على كتاباتهم ومخاوفهم بشيء من التفصيل فأقول:
أولاً: يربط هؤلاء الكُتَّاب والمحذِّرون من المراكز الصيفية بينها وبين الإرهاب، وهذا لعمر الله جناية كبرى وحكم جائر، ولا أدري حقيقة كيف يسمح المرء لنفسه أن يتفوه بمثل هذا الكلام الخطير، وأن يتهم الآخرين بتهمة عظيمة جداً تمس الوطن في أمنه وأهم مقدراته؟! ثم إن الجميع تابع عبر وسائل الإعلام المختلفة التصريحات المتوالية والتوجيهات المتزنة من قادة هذا البلد المبارك وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - ومن المسؤول الأول عن الأمن الداخلي سمو وزير الداخلية - وفقه الله - ومن علماء هذا البلد وعلى رأسهم سماحة مفتي البلاد، وكذا خطباء المساجد وعلى رأسهم خطباء الحرمين الشريفين وكلها تدين الإرهاب والتفجيرات التي حصلت في بلادنا مؤخراً، وتؤكد أن دين الإسلام بريء منها، وأن سببها انحراف فكري تدعمه قوى خارجية، ويرعاه ويدعو إليه أناس تأثروا بذلك والأحداث والوقائع تؤيد ذلك.
ولم يشر أحد منهم لا من قريب ولا من بعيد إلى المراكز الصيفية ونحوها من المناشط الخيرية بل إن هناك من برّأ ساحتها من تلك الأعمال، ولو كان لدى المسؤولين شيء مما يُقال عن المراكز لبادروا بإلغائها بدلاً من دعمها!! ولا أدري كيف نسي أولئك هذا الأمر أو تناسوه؟! وليعلم أولئك أن المسؤولين على دراية تامة ومتابعة دقيقة لكل صغيرة وكبيرة في هذا البلد الآمن وأن هناك عيوناً ساهرة تحميه بعون الله وتوفيقه، وما الضربات الاستباقية التي تعلن عنها وزارة الداخلية بين الفينة والأخرى مع تلك الفئة الضالة إلا خير شاهد على ذلك.
ثانياً: هناك إشارات مهمة حول هذا الموضوع (المراكز الصيفية) فلا بد من التنبيه عليها ومن ذلك:
1 - للمراكز دور حيوي وفاعل في رعاية الشباب والناشئة وشغل فراغهم بما يعود عليهم بالمنفعة، وكثير من أولياء أمور الطلاب يسعدون بها ويدعون لكل من ساهم في إيجادها، حيث إنها تحمي بعد توفيق الله - أبناءهم عن التسكع في الطرقات وتحفظهم من رفقة السوء - وتبعدهم عن براثن المفترات والمخدرات، والمقاهي والمعاكسات وغيرها من المخالفات.
2 - جميع المراكز الصيفية تعمل تحت إشراف مباشر من ولاة الأمر وحكومة هذا البلد المبارك ويتمثَّل ذلك في وزارة التربية والتعليم، ويجب أن يعلم الجميع أن هناك ضوابط وتعليمات تتعلق بافتتاحها والعاملين فيها والأنشطة التي تمارسها وآليات العمل فيها وهناك متابعة لكل ذلك من قبل الوزارة، كما أن المراكز تمارس أنشطتها بشكل علني ظاهر وليست محصورة على فئات معينة منا لمجتمع كما يظن البعض.
3 - يتساءل البعض لِمَ يتولى الإشراف على المراكز المتدينون وأصحاب اللحى؟! ويطالبون بإبعاد الدعاة الدينيين عنها، وسأعلق على هذه المسألة بأربع نقاط:
أ - مجال المشاركة مفتوح لجميع المعلمين من خلال تعاميم توزَّع على جميع المدارس، فهي ليست حكراً على فئة معينة من الناس دون الأخرى، وباب المشاركة مفتوح للجميع، ومن يملك الرغبة للعمل في المراكز ومتابعة مناشطها خلال إجازة المعلمين فليتقدم مشكوراً فالوزارة ترحب بالجميع!! لكن أين من سيضحي بأشياء كثيرة لأجل حماية الشباب والقيام على مراكزهم؟!
ب - يجب أن نعلم أن وجود هؤلاء على رأس العمل في المراكز والإشراف عليها لا يشكِّل خطراً على أبنائنا، بل على العكس تماماً فهم مصدر اطمئنان، ويجب أن نعلم أن التزام الشخص وتدينه لا يعني بحال أنه ينتمي للفئة الضالة أو يتعاطف معها، فهناك بون شاسع بين الدين والتديُّن الحقيقي وما تمارسه الفئة الضالة، والتعميم خطأ بيّن وفهم قاصر.
ج - تعاني بعض إدارات التعليم من قلة المتقدمين للإشراف على المراكز والأندية الصيفية لقلة الحوافز المقدمة، وكثير من المتقدمين للإشراف يفعلون ذلك احتساباً للأجر، وحرصاً على مصلحة الشباب فيجب تقديم الشكر لهم بدلاً من التجني عليهم والتشكيك في نياتهم.
د - من أهداف المراكز والتعليم بل والحياة عند المسلمين تزكية النفوس وزيادة التقوى وتقوية الإيمان، وهذا الدور يتولى القيام به غالباً الدعاة الدينيون سواء كانوا من المشرفين أو الزائرين ممن سُمح لهم بإلقاء الدروس والدعوة وكانوا من الموثوقين في علمهم وأفكارهم، فلِمَ المطالبة بإبعادهم إذن؟!
4 - إذا ثبت أن أحد المنتسبين للفئة الضالة كان منتسباً للمراكز الصيفية فيما سبق، فليس معنى ذلك أن المراكز هي سبب انحرافه!! ولو أخذنا بهذا المبدأ الجاهل والميزان المائل لكانت أغلب مرافق وقطاعات الدولة سبباً في انحراف منسوبيها حيث إن المنتسبين للفئة الضالة ينتسبون إلى قطاعات مختلفة ومتنوعة، ومن المعلوم أنه لا يمكن أن يقول بذلك عاقل منصف!!!
5 - المراكز الصيفية ليست مقدسة أو معصومة من الخطأ وإذا ثبت أن هناك من خالف الأهداف والأسس التي أُنشئت من أجلها، فيجب معاقبته والحزم معه، وعدم السماح له بالعمل فيها، ولا يجوز لنا أن نعمم هذا الشذوذ وننال من جميع المناشط والمراكز بسبب ذلك.
6 - يجب على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه وأن يتأنى في إصدار الأحكام ولا يطلق للسانه أو لقلمه العنان في انتقاص الآخرين والنيْل منهم دون دليل أو تثبت، ولا يحمله عدم الاقتناع ببعض المناشط أو كرهها على إلصاق التهم بها، وليكن قول الحق تبارك وتعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} آية (8) سورة المائدة.. نبراساً يسير في ضوئه.
7 - نيابة عن جميع المسؤولين في جميع مراكز مملكتنا الحبيبة أوجه دعوة حبية لكل أولئك الذين اتخذوا موقفاً سلبياً من المراكز الصيفية بزيارات متكررة لها ليطلعوا عن كثب على أنشطتها وأنا على يقين بأن نظرتهم القاتمة للمراكز ستتغيَّر، ومفاهيمهم عنها ستتبدَّل.
8 - لا بد من توجيه الشكر لجريدة (الجزيرة) والقائمين عليها لمتابعتها الدائمة والمستمرة لأنشطة المراكز والأندية الصيفية إيماناً منها بدورها الذي تقوم به في هذا المجتمع الآمن.
أحمد بن محمد البدر - الزلفي |