أمي وما أحلى كلمة أمي، أمي الحبيبة لن أنساك، أمي وليس لك بديل، أمي فلن أنساك، حتى وإن غابت رسومك ففي نفسي وفي وجداني يظل طلع محياك.
أمي التي عاشت شظف العيش لتسعدني، أمي التي آثرت جوعها لتشبعني، أمي التي آثرت عريها لتكسوني.
لن أنسى يا أمي أول سفرة سافرتها، وأنت تتعرضين للسيارة بغية أن تلقي علي آخر نظرة وداعية، وأنا أتظاهر بالرجولة (ممثلاً) بأنني لا أخاف ولا أحزن على الفراق.
لن أنسى يا أمي حينما عرض علينا الالتحاق بالمدرسة العسكرية وأنا لا زلت في المرحلة الابتدائية، حين قلت ونحن على طعام العشار الميسور.. من أين لك مثل هذه الوجبة.. قائلة لا لا لن أتركك تلتحق بالمدرسة العسكرية.. كل هذا خوفاً على ابنك الوحيد. فأطعتك ولم أعصك لعلو مقدارك عندي.. فأبدلني الله خيراً من ذلك.
لن أنسى يا أمي أن الأسرة كانت ثلاثة (أنا ووالدي وإنتي) ومع هذا كنت لاتتناولي معنا الطعام؟ بل تقدميه وتتلهي بالعمل في المطبخ حتى نشبع ثم تأتين على ما بقي من الطعام بعد أن تطمئني على شبعنا، نعم كنت تمثلين أعلى مراتب الراعي لرعيته جعل الله ذلك في ميزان حسناتك يوم تلقين ربك.
لن أنسى يا أمي، أنك كنت تتساءلين - في غربتي - كلما رأيتِ طائرة هل أنا من ركابها. حتى أن أخواني من أبي الذين نشأوا بعد غربتي، علمتِهم بعض الأناشيد حتى أصبحوا يتساءلون على لسانك متى أعود.
لن أنسى يا أمي - وآمل ألا أنسى - عندما كنت تذهبين للحطب وتحملين بعيرنا (ضبيان)، وما توفر لك من الدواب، وعلى ظهرك، بغية أن نعيش في موفور من العيش، لم يمنعك رقي أصلك وطيب معدنك العوشزي القحطاني.
لن أنسى يا أمي عندما كان والدي يعمل مدرساً في مدارس القرعاوي، أنك كنت المرأة وكنت الرجل وكنت المربية الفاضلة والزوجة الأمينة، والأم الحنون.
لن أنسى يا أمي أنك أول من علمني (الفاتحة) وقصار السور حتى أستطيع الصلاة رغم صغر سني.
لن أنسى يا أمي أنك كنت خير عون لي بعد الله على تحصيلي العلمي سواء في المراحل الابتدائية، أم في المراحل العليا، وأذكر على سبل المثال لا الحصر أنك - جزاك الله خير وغفر ذنبك وأسكنك فسيح جناته - كنت تنتظرينني خلف باب الحوش ونحن خارج المملكة حتى إذا عدت من المدينة التي كنت أدرس فيها بعض المقررات الجامعية عند مدرس خاص - كنت تنتظرينني خوفاً أن تنطفئ الكهرباء، فلا يكون هناك مجالاً لسماع الجرس فتفتحين لي وأنتي في لهفة لقدومي.
لن أنسى يا أمي أنك كنت على درجة عالية من الذوق الرفيع، حيث سافرتي معي للخارج بعد زواجي، وكنت خير عون لي بعد الله على نجاح زواجي، وحسن معيشتي الزوجية، وحسن تربية أبنائي.
لن أنسي يا أمي أنك عشتِ معي في منزلي قرابة (33) عاماً فلم تفتحي الثلاجة مرة واحدة لتأخذي ما تريدين، بل كنت تمثلين الحياء كل الحياء، والأدب كل الأدب فرحمك الله رحمة واسعة.
لن أنسى يا أمي أنك رغم طول الوقت الذي قضيناه معا، لم أذكر مرة واحدة أنك طلبتي شيء معين، وإنما كان جوابك إذا سألتك ماذا تريدين يا أمي؟ قولك (الذي يتيسر من عند الباري) فهنيئاً لك بهذه القناعة.
لن أنسى يا أمي سهرك على أبنائي وإخواني وحرصك على تربيتهم وتغذيتهم حتى أنهم كانوا يفضلون العيش معك ويفضلونك على أمهاتهم لحنانك ورحمتك بهم.
لن أنسى أنك كنت لا تتركين أحداً من الأبناء أو الإخوان ينام دون أن يتعشى، وإذا نام أحدهم مبكراً، رأيتك تذهبين إليه بالعشاء وتطعمينه وهو نائم (أطعمك الله من طعام أهل الجنة).
لن أنسى يا أمي أنك بعد مرضك وفقدك للوعي والذي طال أكثر من (خمس سنوات) لم تعرفيني ولم تعرفي أحداً من الأسرة، لكن جمعنا الله بك في الفردوس الأعلى، وأحسن مثوانا ومثواك.
لن أنسى يا أمي أنك كنت خير زوجة لخير زوج، وأنك كنت الزوجة المثالية رغم ظروف الحياة وقسوتها، ورغم شظف العيش.
لن أنسى يا أمي أنك كنت إذا زارك أحد الأقرباء ترفضين أن تأخذي منه عطاءً مادياً وتدعين له بالبيحة في الدنيا والآخرة.
لن أنسى يا أمي أنك تنازلتي عن حقك في الميراث رغم كثرته للورثة الباقين، قناعة منك بما قسم الله، وإيثارا للآخرين، وتطيباً لخاطر ابنك الوحيد، فطيب الله ثراك وأسكنك فسيح جناته.
لن نسى يا أمي أنني بقدر عطائك لي، كنت أقل عطاء مما يجب فسامحيني؛ فلن قصرت في حياتك، فأعدك أنني سأكون داعياً لك في كل صلاة، متصدقاً عنك في كل مناسبة، ذاكراً لكِ في كل لحظة.
لن أنسى يا أمي أن لحود القبر عزلتك عن وحيدك لكن قدر الله أقوى وأمضى، وسنته في الكون لا تبديل فيها، كل شيء بعلمه، ونحن كبشر ليس لنا إلا رحمته، فرحمك الله حية وميتة وجزاك الله عن زوجك وعن أبنك وأبنائه وإخوانه خير ما جزاء امرأة عن أهلها؛ وأسكنك فسيح جناته إنه ولي ذلك والقادر عليه؛ وليس لنا من قول إلا قول الباري سبحانه وتعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28)فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)وَادْخُلِي جَنَّتِي (30).}و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
|