إن عالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته، لأنه يعلم بأن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب! (لذا فإن ضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة، كانت همته أعلى، وإرادته ومحبته أقوى، فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب، وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين طلبه وإرادته، فضعف القلب وفتور الهمة إما من نقصان الشعور والإحساس، وإما من وجود الآفة المضعفة للحياة، فقوة الشعور وقوة الإرادة دليل على قوة الحياة، وضعفها دليل على ضعفها، وكما أن علو الهمة، وصدق الإرادة، والطلب من كمال الحياة، فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها، فإن الحياة الطيّبة إنما تُنال بالهمة العالية، والمحبة الصادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيِّبة، وأخس الناس حياة أخسهم همة، وأضعفهم محبة وطلباً، وحياة البهائم خير من حياته)..
تفاوت الهمم حتى بين الحيوانات
تتفاوت الهمم في جميع الحيوانات:
فالعنكبوت من حين يولد ينسج لنفسه بيتاً، ولا يقبل منة الأم،
والحيَّة تطلب ما حفر غيرها، إذ طبعها الظلم،
والغراب يتبع الجيف.
والصقر لا يقع إلا على الحي.
والأسد لا يأكل البايت.
والفيل يتملق حتى يأكل.
والخنفساء تطرد فتعود..
قال الشيخ محمد الخضر حسين رحمة الله تعالى عليه مبيِّنا أثر (علو الهمة):
(يسمو هذا الخلق بصاحبه، فيتوجه به إلى النهايات من معالي الأمور، فهو الذي ينهض بالضعيف يضطهد، أو يزدرى، فإذا هو عزيز كريم، وهو الذي يرفع القوم من السقوط، ويبدلهم بالخمول نباهة، وبالاضطهاد حرية، وبالطاعة العمياء شجاعة أدبية.
هذا الخلق هو الذي يحمي الجماعة من أن تتملق خصمها..
أما صغير الهمة فإنه يبصر بخصومه في قوة وسطوة فيذوب أمامهم رهبة، ويطرق إليهم رأسه حطة، ثم لا يلبث أن يسير في ريحهم، ويسابق إلى حيت تنحط أهواؤهم..).
خسيس الهمة: دنيء النفس
يستحيي الإنسان ممن يكبر في نفسه، فيستحيي من العالم أكثر من استحيائه من الجاهل، ويستحيي من الصالح أكثر من الفاجر، في حين أنه لا يستحيي من الحيوان، ولا من الأطفال، ومن كانت نفسه عنده كبيرة، كان استحياؤه منها أشد من استحيائه من غيرها، أما خسيس الهمة فإنه يستحيي من الناس، ولا يستحيي من نفسه إذا انفرد عن الناس، لأن نفسه أخس عنده من غيره، وهو يراها أحقر من أن يستحيي منها، فمن ثم قال بعض السلف: (من عمل في السر عملاً يستحيي منه في العلانية، فليس لنفسه قدر)، وقيل لبعض العباد: (مَن شر الناس؟) قال: (من لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً).
العلامات
* من علامات علو الهمة، ألا ترضى لنفسك من كل شيء إلا بأحسنه.
* من علامات الزهد، أن تعرض عن الدنيا وهي مقبلة عليك.
* من علامات الكرم، أن تكون للبذل فيما لا يتحدث عنه الناس أسرع منك للبذل فيما يشتهر أمره بينهم.
* من علامات العظمة، أن تزداد ثباتاً في طريقك كلما ازدادت فيه المتاعب.
* من علامات الصدق، أن تكون كلمتك واحدة في الرغبة والطمع واليأس.
* من علامات التقوى، أن تحسن معاملتك للناس.
* من علامات حسن الخلق، أن تكون في بيتك أحسن أخلاقاً.
* من علامات الاستقامة، ألا تتغيّر فضائلك بتغيّر أحوالك.
* من علامات الإخلاص، أن يهمك الرضا من ربك عما تعمل، قبل أن يهمك الرضا من الناس.
* من علامات الصبر ألا تكثر من الشكوى للناس.
* من علامات الشكر، أن تخجل من التقصير مع من أحسن إليك.
* من علامات لطف الله بعبده، أن يسهل له العسير، ويرضيه باليسير، ويقرب له البعيد، ويجنبه من الآلام ما لا يستطيع تحمله.
* من علامات الحقيقة، أن تكون بسيطة يدركها العالم والجاهل، فإذا كانت معقدة لا تفهم إلا بعناء، كانت خيالاً ووهماً.
* من علامات انطماس البصيرة، أن يضيق الإنسان بظلمة بيته، ويرتاح لظلمة قلبه.
رباعيات
ارحم أربعاً من أربع: عالماً يعيش مع الجهّال، وصالحاً يعيش مع الأشرار، ورحيماً يعيش مع قساة القلوب، وعالي الهمة يعيش مع خائري العزائم.
|