ما بين الفلسطيني والدم رحلة طويلة معمدة منذ أكثر من قرن من الزمان، وعلى أرض فلسطين و(بلاد العرب أوطاني) نزف الفلسطينيون من جراح كما لم ينزف شعب من الشعوب، ومن دير ياسين وقبية ونحالين مرورًا بكفر قاسم وصبرا وشاتيلا والحرم الإبراهيمي الشريف، برزت المجازر الإسرائيلية اليومية في انتفاضة الأقصى المباركة ضد أبناء الشعب الفلسطيني كافة، العنوان الأكثر إيلاماً والمنعطف الأكثر دموية في السجل الدموي الصهيوني الأسود ضد الفلسطينيين.
ومن تل الزعتر وبيروت وبرج البراجنة وعين الحلوة مروراً بحرب المخيمات والبداوي ونهر البارد برزت المجازر ضد الفلسطينيين التي كانت هذه المرة بأيد عربية، وبسلاح عربي اشترته الأنظمة لتحرير فلسطين.!
في فلسطين شكل القمع الوحشي الإسرائيلي والمتواصل منذ أكثر من خمس سنوات معرضًا لأسئلة وتساؤلات تميل بدورها إلى مراجعة للتاريخ، ووضع جميع الدول أمام مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني وحقوقه الطبيعية والتاريخية.
فالتصعيد الجنوني الذي يقوده المجرم يهودا أولمرت تلميذ مجرم الحرب جزار صبرا وشاتيلا (شارون) ضد كل ما هو فلسطيني، أوجد حالة مأساوية وبدرجة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، فحرب الإبادة والتطهير العرقي التي يشنها أولمرت ضد الشعب الفلسطيني تذكرنا بالمجازر التي ارتكبها أستاذه شارون سفاح صبرا وشاتيلا، فكما لم يوفر الشارون الدموي كل ما لديه من أسلحة حديثة فتاكة لحصد أكبر عدد من أرواح المدنيين العزل من الأطفال والنساء والعجزة بالدبابات والصواريخ والمروحيات والمقاتلات والبوارج في جميع مخيمات وقرى ومدن فلسطين تكريسًا لشهوته الجنونية بسفك المزيد من الدماء، جاء تلميذه أولمرت ليكمل مشواره الدموي، فلا يمضي يوم إلا ويشيع الفلسطينيون أعدادًا كبيرة من شهداء العدوان الصهيوني نتيجة الغارات الإسرائيلية جواً وبراً وبحراً وعمليات الاغتيال والاجتياحات المستمرة، حيث أصبح الشعب الفلسطيني بالكامل هدفاً لهذا العدوان النازي اليومي الذي ينفذه جيش الاحتلال الإسرائيلي.!
وفي بعض الدول العربية أصبح قتل الفلسطيني على الهوية ضرورة ومطلبا وطنيا وشهادة حسن سيرة وسلوك أمام الإدارة الأمريكية.!
فقد حاربتنا بعض الأنظمة العربية أكثر مما حاربتنا إسرائيل، وذاكرتنا الخصبة تحفظ لهذه الأنظمة ليس تعذيبنا في سجونها ومعتقلاتها، بل أيضاً دم أطفالنا المسفوح في نهر البارد والبداوي وطرابلس والبقاع وصبرا وشاتيلا وتل الزعتر.!
وصلتني قبل أيام رسالة بالبريد الإلكتروني من الكاتبة والشاعرة الفلسطينية سارة رشاد التي تقيم في العراق.
في رسالة الأخت سارة لعنة جديدة للكرامة العربية، وإهانة أخرى للقومية العربية التي تنادى بها البعض لتحرير فلسطين، وإذ بها سكين أخرى استخدمت لسحق حلم الشعب الفلسطيني حتى العظم.!
تقول سارة رشاد في رسالتها:
(لم أكن يوماً أظن أنني قد أكتب مثل هذه المناشدة أو أفكر فيها، لكن عندما يسوء الوضع حولنا، ونشعر بأن الحياة لم تعد تكفي لسماع صراخنا نبدأ بطرق الأبواب بيأس كي لا يستمر موتنا أكثر وأكثر ثم بلا نهاية.
نحن عائلة فلسطينية تحمل الوثيقة المصرية. ولدتُ أنا وإخوتي في الكويت لكن بعد حرب الخليج الأولى عام 1991م اضطر والدي للخروج بنا إلى العراق أملا بتوفير حياة جيدة لأطفاله. عشنا في العراق منذ عام 1992م وعانينا ظروفه الصعبة من الحصار وغيره.
بعد الاحتلال الأمريكي ازداد الوضع العراقي سوءاً بصورة عامة على الجميع من العراقيين واللاجئين خصوصاً خلال الأشهر الأخيرة بعد تزايد التفجيرات والاعتقالات وتصاعد وتيرة القتل الطائفي فصار العراقيون أنفسهم يغادرون بلدهم حفاظاً على حياتهم.
لكن نحن لم نستطع الخروج بسبب حملنا الوثيقة المصرية إذ لا توجد دولة عربية أو أجنبية توافق على دخولنا أراضيها، حتى الحكومة المصرية نفسها تسمح فقط للنساء والأطفال بالدخول.
وعلى رغم ذلك حاولنا الاستمرار بالحياة هنا (في العراق) على رغم شعورنا بجدران السجن التي تحيطنا محاولين تناسي الرعب والموت والقتل الذي يطلبنا يومياً ولم نظن أن الأمر سيصبح أسوأ.
والدي توفي قبل سنتين على الحدود الأردنية- العراقية عندما حاول مغادرة العراق إلى الأردن الذي رفض دخوله لحمله الوثيقة المصرية على رغم أن له أملاكاً هناك.
وقبل شهرين تم اعتقال أخي من قبل قوات الحرس الوطني العراقي فقط لأنه فلسطيني شاءت الصدفة أن يتواجد قرب انفجار ما ولم يخرج من الاعتقال إلا بعد كمية من التعذيب واعتقال مدة أسبوعين.
إلى هنا كان الوضع على رغم بشاعته قابلاً للاحتمال، لكن الآن وبعد أن تم اختطاف أخي من بيننا وقتله بكل بساطة ومن دون سبب فهذا لا أعتقد بأن هناك أحداً يستطيع تحمله.
أنا أشعر بأننا أموات في العراق بلا قيمة، بلا إنسانية. العراقيون عندما يشعرون بالخطر يسمح لهم بالسفر بسهولة إلى أي دولة عربية أو أجنبية، أما نحن فلا يمكننا.
عائلتي تتكون من الوالدة، وهي وكيلة مدرسة عملت في تربية الأجيال سنوات طويلة.
عامر طالب ماجستير هندسة ونظم إلكترونية.
محمد طالب سنة ثالثة هندسة ميكانيك.
وسارة طالبة سنة ثانية هندسة.
سندس وبلسم أقل من 18 سنة. إضافة إلى أطفال أخي الشهيد ووالدتهم.
كنا ننوي السفر إلى مصر لكنها لا تسمح لإخواني الشباب بالدخول، وطبعاً لا يمكننا السفر من دونهم فيكفي ما نعاني من الغربة والتشرد، وأيضاً أصدرت الحكومة السورية قبل فترة قراراً يسمح للاجئين بالدخول واستبشرنا به خيراً لكن الخبر لم يكن لمصلحتنا حيث يتم إدخال اللاجئين في منطقة الحسكة إلى مخيمات لجوء.
نطلب فقط وفقط السماح لنا بدخول أي دولة، أي دولة عربية أو أجنبية. وأعتقد بأننا عائلة مثقفة ومتعلمة لن تكون عالة على أي مجتمع بل العكس لها القدرة على إعطاء أي مجتمع وليس فقط الأخذ منه.
ساعدوني بإيصال مشكلتي لأي مسؤول، لأي جهة، لأي سفارة، لأي شخص يمكنه مساعدتي ومساعدة عائلتي.
لم أطلب يوماً من أحد نشر قصيدة أو نص لي، لكن أرجوكم. من له علاقة بأي صحيفة أو مجلة لينشر صوتي فأنا أقترب من الجنون يوماً بعد يوم.
بورك فيكم... أحتاج للمساعدة ولا أعرف كيف أو من أين أبدأ.)!
انتهت رسالة الأخت سارة التي جمعت فيها خلاصة التجربة الفلسطينية في المنافي والشتات مع أنظمة أصبحت كلمة (فلسطين) في قاموسها ضميرا غائبا، وإن العدو اللدود لهذه الأنظمة هو الفلسطيني كيفما كان، وأن الجميع مشارك في التآمر على القضية، وفي ذبح الشعب الفلسطيني لدرجة المتعة في الولوغ في الدم الفلسطيني.!
خلاصة رسالة سارة رشاد للشعب الفلسطيني الذي يواجه آلة الحرب والدمار الإسرائيلية في ظل تخاذل عربي مشين أمام المشروع الأمريكي بأنه كفانا استغاثة بالأمة العربية التي بلغ الاستسلام فيها المدى، والذي اعتبر البعض منهم بأن الانتفاضة ما هي إلا ترهات كبيرة لا بد من تجاهلها تخفيفاً للأعباء.!
فالواقع العربي مخيف جداً، ستون عاماً ونحن نشتري الطائرات والدبابات والصواريخ والمدافع لمحاربة العدو وتحرير فلسطين، وعندما جاءت معركة الدفاع عن كرامة هذه الأمة نظر الفلسطينيون بدهشة إلى هذه الترسانات العملاقة فوجدوا أن الصدأ قد أتم التهامها كما التهم ذات يوم عقولنا وذاكرتنا المجهدة أصلا.!
وأن ما تبقى من هذه الأسلحة احتفظ به للقضاء على الفلسطينيين.!
الحقيقة الصارخة في الوضع الذي يعيشه شعبنا الفلسطيني في الأراضي المحتلة وفي المنافي والشتات هي أن الرصاص العربي قتلنا ويقتلنا، وأن الرصاص الإسرائيلي يحيينا..!!
وإنه العدوان نفسه على الشعب الفلسطيني:
إسرائيلياً كان أم عربياً..!!
والحصار.. هو الحصار.. إسرائيلياً كان أم عربياً..!!
وإذا كان لا بد من التمييز بين الحصارين فلنقل إنهما متشابهان في الصيغة، ومتوافقان تماماً في الأهداف والغايات.!
فلم يبق أمامنا في ظل هذا الزمن الذي أصبح فيه (العجز) سمة عربية، و(الخيانة القومية) وجهة نظر، إلا أن نقول: (حسبنا الله ونعم الوكيل)..!!
|