كان يتناقش مع صديق له حول موضوع معين، وكل يبرر وجهة نظره بلوغاً إلى الاقتناع الذي هو بالطبع هدف كل واحد منهم، واتضح من خلال هذا الحوار الذي كاد ينهار لضعف أساساته، والأساس بطبيعة الحال هو التحلي بروح الحوار الذي ويا للهول افتقر إليه في الوقت الذي كان يعتقد فيه أنه ممسك بتلابيبه.
على أية حال، افترقا على الود والمحبة على الرغم من وجود الاختلاف الشائك، وحين أمعن النظر وأخضع فكره لمحاكمة فورية مستعجلة كتجسيد للضمير اليقظ لشرح ملابسات التشنج وابتعاد المرونة في الأخذ والرد والرفض والقبول بصيغة منطقية جذابة، فيما انبرى فريق المحامين بقيادة العاطفة والاعتداد بالرأي والمكابرة يدافعون عن موكلهم الفكر ليخسروا القضية، ولا سيما أن الفكر استقر بعد التأمل وتفهم المعطيات على نحو متزن على دعم موقف صديقه؛ أي أن الإنصاف والعدل لا بدَّ أن يأخذ موقعه الطبيعي، طال الأمد أو قصر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن مجرد الشعور بالإنصاف سيضفي راحة نفسية على النفس، باعتبارها الدينامو المحرك لكل التفاعلات الحسية، وإذا كانت محاسبة النفس من أنبل السلوكيات المؤطرة لحسن الخلق والمعززة لدور الحكمة (ورأس الحكمة مخافة الله) فإن مراجعة الفكر لا تقل أهمية من حيث الالتصاق بالمبادئ الفاضلة، ومتى ما تلازمت محاسبة النفس ومراجعة الفكر فإنهما بلا ريب سيؤسسان قاعدة صلبة متماسكة يتكئ عليها الاتزان كمحور مؤثر في رصد الحركة، بل وتوجيهها بما يتواكب من مستجدات بصيغة منطقية خلاقة؛ إذ إن معطيات كل مرحلة تتغير طبقاً لظروف كل مرحلة، غير أن التعاطي مع كل المراحل، مع كل ما يتطلبه من مرونة، يجب ألاَّ يؤثر على صلابة الأساس واستقرار القاعدة، فالخطأ لا يمكن أن يخضع لعملية تجميل وإدراجه في خانة الصواب مهما بلغت حرفية الجراح من الإتقان، والصواب كذلك، وتكمن المعضلة في عدم إتاحة حيز يتسع للتحري والتأمل في الفكر، أو بمعنى أدق قبول الرأي الآخر بأريحية تسهم في إسعاف الرأي بالبلورة المتقنة، والموضوعية المنشودة بعد التمعن، وهذا ما افتقده إبان حواره مع صديقه، ويبدو أن اللياقة لم تسعفه؛ لأن التمرين لم يكن كافياً، ألا وهو تمرين التجرد من مزج الموقف بالأنا؛ أي شخصنة الموقف لا شعورياً، فيما كان اعتداده برأيه وتصلب موقفه كان منبعه إيحاء تسلطي ومكابرة ليس لها ما يبررها، إذن فهو بحاجة إلى مزيد من التمرين المكثف لكيلا تخونه اللياقة؛ لأن النتيجة بالطبع ستكون الخسارة على جميع الأصعدة، وأصعبها على النفس حتماً خسارة التحلي بالروح الرياضية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من مدلولات عميقة رائعة، ولكل إنسان شخصيته الاعتبارية التي يعتز بها، وتكمن الإشكالية في كشف الالتباس المعرفي، سواء من حيث صحة المعلومة ودقتها أو ضعف الاستناد، فيما تكون السياج الوهمية المحيطة بالفكر كعنصر مؤسس لحماية الاعتبار تشكل عوامل إعاقة للفكر وتطوره وارتقائه من جهة، وتضعف المسار التفاعلي المتزن في سياق البحث عن الأصح والأصلح والأجدر أن يؤخذ به، وفي خضم الهالة الإعلامية التي يصنعها الإنسان لنفسه والمعززة لبروز التضخم الشكلي فإن المحتوى سيدور في فلك انعدام الاتزان، وسيفقد كثيراً من خصائصه، وبالتالي فإن الجانب التضليلي المتشح بالسواد على هذا النحو سيكرس الظلام ليغدو كالحاً رافضاً الإضاءة في الوقت الذي هو في أمس الحاجة إليها، إلا أن المكابرة تأبى الانصياع لصوت العقل في الوقت الذي تنسج فيه العاطفة خيوطها البراقة المزيفة، لينضح الإناء بتضخم وهمي تتشكل ملامحه وفقاً لهذا الجنوح المؤرق؛ إذ إن مستوى اللياقة الفكرية تسقط في كثير من الأحيان من يفقدها أو جزءاً منها، فكلما اتقد الفكر واكبته الحماسة في التطلع للمزيد من العطاءات الزاخرة هنا وهناك، متى ما كان متهيئاً لقبولها، بما في ذلك بسط الأرضية الملائمة لهذا القبول، فالإنسان يتعلم كل يوم ومن كل شيء من حوله، بل إن التجارب تسهم في صنع الحكمة في كثير من الأمور، والفكر بطبيعة الحال في حالة حراك دائم؛ أي أنه لا يستقر على نمط معين، فالذهن يعمل على تحليل الاستقاء، وتشكيل النمط اللائق والمواكب للقناعة، فيما تكون مسألة ترويض الفكر ضرورة حتمية للحد من تسرب الجنوح المفضي إلى الشكوك البغيضة، والوساوس الداعمة لإذكاء صبغة التمرد، وتجاوز مرحلة الإدراك في تكريس لقفز اللاشعور بصيغة تسهم في الإنهاك جراء الانهماك في مسائل كالمسائل الغيبية التي نهى عنها الشارع الحكيم لما تخلفه من تشويش مؤرق وتوتر مقلق، فكان الاستغفار سداً منيعاً تتكسر عليه الهواجس المؤذية، فبات المبدأ الصلب والثبات عليه معبراً لنشوء طمأنينة النفس وراحتها؛ إذ إن حجب الأمور الغيبية إنما كان رحمة للعباد، وحينما يستحوذ الجانب العدائي الشاذ على الفكر فإنه بلا ريب حلقات تنسج بحرفية لصده عن التحليل المتقن من جهة، وتكبيله من جهة أخرى على نحو يؤطر السوء بملامحه السوداوية القاتمة، فيما يغيب الخير وفقاً لتحقيق المآرب النفعية البحتة في ابتسار مخل لقاعدة عظيمة ألا وهي أن درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، فأي مصلحة تتأتى من قتل نفس بريئة بغير نفس وهي تمثِّل قتل الناس جميعاً كما ورد في القرآن الكريم؛ لخطورة هذا العمل ورحمة الخالق تبارك وتعالى بعباده؟! فهل الأجدر درء هذه المفسدة أم إهلاك الناس جميعاً لتحقيق ضغط معين وما شابه ذلك وما يتبعه هذا العمل الآثم من ظلم فاضح واضح؟! فيجب ألا يكون الفكر أسيراً لقيود تجرده من استقلاليته، فالخطأ خطأ مهما حاول الآخرون تلميعه وصبَّه في قالب آخر، وبراءة الذمة تحتم على الفرد التثبت وعدم إلحاق الأذى بالآخرين جزافاً وكيفما اتفق.
|