Monday 12th June,200612310العددالأثنين 16 ,جمادى الاولى 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

الوجه الحقيقي لديمقراطية المتصهينين الوجه الحقيقي لديمقراطية المتصهينين
عبد الله الصالح العثيمين

كنت قد تناولت مسألة الديمقراطية باختصار؛ وذلك في حلقتين نُشرتا في صحيفة الجزيرة الغراء بعنوان (منافقو المبادئ). ثم أعيد نشرهما ضمن كتاب (مقالات عن الهم العربي) الذي صدر في دمشق العام الماضي. وقلت: إن من أسباب ما شجَّعني على تناول تلك المسألة أن الحديث عنها أصبح منذ أن أعطت أمريكا إشارة خضراء لهذا الحديث بعد ترسُّخ قدميها في منطقتنا العربية المغلوبة على أمرها - سلعة رائجة يعرضها من يعرف قدرها ويدرك أبعادها، ومن لا يعرف ذلك القدر وهذه الأبعاد؛ تماماً كما أصبح سلعة رائجة أن يتبارى المتبارون من داخل الوطن وخارجه في الهجوم على مقررات العلوم الدينية في مناهجنا التعليمية؛ وبخاصة ما يوجد فيها من كلام يبين أسس دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله رحمة واسعة. تلك الدعوة التي يعرف كل متجرِّد عن الهوى أنها تنادي بأن يتحرَّر عقل المرء من ربقة خرافات التعلُّق بغير الله، ويتمسَّك بما يدل عليه كتابه العزيز وسنَّة نبيِّه الأمين، كما يدلُّ عليه العقل السليم، من وجوب التعلُّق بالله وحده، والتوكل عليه سبحانه لا شريك له.
ولقد أشرت في تناولي لمسألة الديمقراطية إلى طريقة تبنِّيها من قِبل الغربيين، وإلى بعض ما فيها من إيجابيات؛ نظرياً وتطبيقياً، وإلى بعض ما فيها من سلبيات؛ وبخاصة في نظر الملتزم بالإسلام حكماً، إذا أُخذت بالمفهوم الغربي؛ فكراً وممارسة. ذلك أن مصدر التشريع فيها لدى الغربيين هو البشر في حين أن ذلك الملتزم بالإسلام حكماً يرى أن مصدر التشريع هو كتاب الله وسنَّة نبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم. فالديمقراطية الغربية، التي من ملامحها تبني ما تراه الأغلبية في المجلس الذي يمثِّل؛ نظرياً، شعباً ما يمكن أن تقرَّ ما يتنافى مع تعاليم الدين كما يتنافى مع الخلق الكريم المنسجم مع الفطرة السليمة التي فطر الله عليها الناس. ومن أمثلة ذلك أن أصبح اللواط - كما الزواج المثلي - مباحاً في بعض الدول الغربية الموصوفة بأنها ديمقراطية.
على أن مما يلحظه المتأمل في مسيرة تاريخ الدول الغربية المتبنِّية لمبدأ الديمقراطية؛ قولاً وإعلاماً، أنها مارست تمييزاً عنصرياً بشعاً في مجتمعاتها لم ينته نظرياً إلا قبل مدة قصيرة. وما اللوحات المكتوب عليها عند أبواب بعض المطاعم والمقاهي عبارة (ممنوع دخول السود والكلاب) إلا دليل أدركه من أدركه من أبناء الجيل الحاضر وبناته.
أما في علاقات الدول الغربية المتبنِّية للديمقراطية مع الشعوب الأخرى فكان تعامل قادتها - وما زال - يتنافى مع ما يدَّعيه هؤلاء القادة؛ نفاقاً وكذبا، من مراعاة لحرية الشعوب وحقوق الإنسان. وتاريخ الاستعمار الغربي لبلدان أخرى؛ إسلامية وغير إسلامية، برهان ساطع على ترسُّخ ذلك النفاق وتعمُّق هذا الكذب في نفوس من يدّعون التمسُّك بمبادئ الديمقراطية التي منها الحرية والعدل وحق تقرير المصير. وليس ما حدث في العراق منذ العدوان الذي ارتكبه المتصهينون ضده إلا استمراراً لذلك التاريخ.
وهاأنذا أكتب هذه السطور ووسائل الإعلام المختلفة ما زالت تتحدَّث عن جريمتي الحرب البشعتين اللتين ارتكبهما جيش المتصهينين من قادة أمريكا في حديثة غربي العراق وإسحاقي قرب بغداد. ويعلم كل من قرأ تاريخ قادة أمريكا المتعاقبين أن ذلك التاريخ سلسلة من جرائم الحرب المرتكبة ضد الآخرين، وأن الجريمتين الأخيرتين ليستا خارجتين، أو غريبتين، عن تلك السلسلة المصطبغة بأبشع صور الجريمة والإرهاب. في حديثة أطلق مجرمو جيش دولة الغطرسة والجبروت النار على مدنيين في الشارع دون أن يقوم أولئك المدنيون بأيِّ عمل ضد غطرسة المجرمين وجبروتهم. ولم يكتف المجرمون، الذين فرضت دولتهم المتغطرسة المتجبرة على العالم كله عدم محاكمة أفراد جيشها مهما ارتكبوا من جرائم أمام المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة مجرمي الحرب من الدول الأخرى، لم يكتفوا بارتكاب تلك الجريمة النكراء. بل اندفعوا بكل ما يتَّصفون به من وحشية، واقتحموا بيوتاً كان أهلها؛ رجالاً ونساء، شيوخاً وأطفالاً، نائمين، فقتلوهم جميعاً. ورأى العالم كله عبر وسائل الإعلام - بعد شهور من تلك المجزرة - صورة جديدة - وإن لم تكن غريبة - من جرائم دولة الجريمة والإرهاب. وكان من جزئيات هذه الصورة الجديدة ما ذكرته أم أحد الجنود الأمريكيين الذين ارتكبوا تلك الجريمة بأوامر من قادتهم. قالت أم ذلك الجندي: إن قائد المجموعة التي ارتكبت المجزرة أمر من هم تحت إمرته - وبينهم ابنها - أن يفرغوا البيوت من جثث العراقيين الأبرياء الذين أفرغ المجرمون رصاص حقدهم وغطرستهم في أجسادهم الطاهرة؛ وذلك في محاولة لإخفاء آثار الجريمة المرتكبة. وكان من نصيب ابن تلك المرأة أن حمل طفلة مزَّق رصاص المجرمين الحاقدين رأسها، فأخذ مخها المختلط بدمها يسيل على قدمه.
ومضت شهور على تلك المجزرة وقادة جيش الغطرسة والإرهاب يدَّعون أن أتباعهم لم يرتكبوا جريمة، وأن أولئك الذين ارتكبت بحقهم الجريمة قُتلوا نتيجة تبادل إطلاق النار بين أولئك الأتباع وإرهابيين. وإن من الصحة بمكان أن أكثر جرائم دولة الإرهاب الكبرى في العالم قد تبقى خافية عن الآخرين.
غير أن جريمة حديثة كانت من بين الجرائم التي كشفت وسائل الإعلام؛ أمريكية وغير أمريكية، الحجاب عن وجهها البشع. فما كان من المتحكمين في الإدارة الأمريكية أمام هذه الفضيحة إلا أن أعلنوا أنهم سيجرون تحقيقاً في القضية، وأن من يثبت تورُّطه في ارتكاب جرم سيعاقب على ارتكابه. ولمن شاء من الأغبياء - وما أكثرهم بين من يسمَّون مثقفين في أمتنا - أن يصدِّق ما أعلن، وأن يتوهَّم أن مرتكبي تلك الجريمة البشعة لم يتلقوا أوامر بارتكاب ما ارتكبوه أو أن رؤساءهم لم يحاولوا إخفاء آثار ارتكاب الجريمة. بل إن في إمكان الأغبياء من الناس أن يثقوا بمصداقية قادة أمريكا؛ متناسين سلسلة أكاذيبهم؛ ابتداء من كذبهم على شعبهم وعلى العالم بأن العراق كانت تملك أسلحة دمار شامل، وأنهم لذلك قاموا بما قاموا به من عدوان إجرامي على ذلك القطر العربي المسلم، ثم احتلاله، وتخريب بنيته الأساسية؛ عسكرية ومدنية، وإيصاله إلى ما وصلت إليه من دمار وانقسام طائفي وعرقي بغيض أعمى.
إن التحقيق الموعود به في جريمة حديثة لن تكون نتيجته مختلفة عن نتيجة محاكمة مرتكبي جرائم أبي غريب البشعة: سجن قصير المدة، أو إنزال رتبة عسكرية، لصغار من باشروا ارتكاب تلك الجرائم التي فضحت، وعدم مساس بالكبار الذين هم أساس البلاء.
أما الجريمة البشعة الأخرى، التي ارتكبتها في إسحاقي طغمة من جيش الدولة ذات الإدارة المتصهينة، فقد أعلن أحد قادة ذلك الجيش أن جيشه لم يرتكب جريمة، وأنه تصرَّف تصرُّفاً يتفق مع القواعد المتَّبعة في نظامه.
وما أعلنه ذلك القائد ينطبق عليه المثل الشعبي المشهور، الذي جعل فيه أبو الحصين (الثعلب) طرفاً من أطرافه شاهداً له. متى كان قول قائد من قادة جيش إجرامي التصرُّف، عنجهي الموقف، متغطرس الأداء؛ قولاً وفعلاً، صادقاً أو قريباً من الصدق؟
وإذا كان أمثال ذلك القائد ومن هم أعلى رتباً منهم قد أنكروا ما ارتكب في حديثة، كما أنكروا ما ارتكبوه من جرائم قبل تلك الجريمة النكراء؛ استعمالاً لغازات محرَّمة الاستعمال دولياً في الفلوجة، وارتكاباً لأنواع مختلفة من التعذيب في سجن أبي غريب وغيره من السجون العلنية والسرِّية، فهل يستغرب منه الكذب؟ بل إذا كان كبار المسؤولين في الإدارة الأمريكية أنفسهم قد كذبوا على العالم لتبرير عدوانهم الآثم الغاشم على العراق فهل يصدَّق عاقل ما ادَّعاه القائد الأمريكي العسكري من تبرئة للطغمة التي ارتكبت ما ارتكبت في إسحاقي؟
ربما توصلت جمعية حقوق الإنسان العراقية، التي هي في طور التكوُّن والانطلاق في العمل، إلى اكتشاف حقائق عن المجازر البشعة التي ارتكبها جيش احتلال الدولة المتصهينة إدارتها منذ عدوانها على العراق واحتلالها لأراضيه. لكن سيبقى الكثير من المجازر غير مكتشف. وربما بقي من هذا الجيل من بقي حياً ليرى كيف يعضّ أصابع الندم، أولئك الخونة من العراقيين؛ جنسية أو تجنُّساً، الذين باعوا وطنهم لفقدهم الحياء والكرامة إلى أعداء أمتنا من المتصهينين؛ وذلك حين يلفظهم المتصهينون متى رأوا ذلك في مصلحتهم. وربما بقي بعض من هذا الجيل حياً، أيضا ليشاهد زفرات حسرة غير العراقيين الذين تعاونوا مع المتصهينين. بجعل بلدانهم منطلقاً للعدوان على العراق واحتلال أراضيه؛ وذلك إذا اقتربت ساعة تخلِّي المتصهينين عنهم - بل ربما العمل ضدهم بوسائل بينها تنفيذهم ما يسمونه الفوضى الخلاقة - بعد أن أدَّوا الدور الذي أراد أولئك المتصهينون أن يؤدّوه. فحمار هؤلاء - كما يقول المثل الشعبي - ليس له ذنب. حينذاك لن ينفع عضُّ أصابع الندم ولا زفرات الحسرة. أما التاريخ ذو الصفحات الصادقة فقد سجَّل المواقف المشينة تسجيلاً دقيقاً.
والله المستعان على ما يصف المتصهينون وأعوانهم.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com.sa عناية رئيس التحرير/ خالد المالك
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com.sa عناية نائب رئيس التحرير/ م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2006 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved