من الممارسات الممتعة التي كنا قد ألفناها في طفولتنا المبكِّرة، وسلَّمنا لها، لما لها من فوائد، ولما فيها من لطائف: (تَفَقُّد المصلين) بعد صلاة الصبح، ومتابعة الذين يتكرِّر منهم الغياب. وتسميع (سؤال منكر ونكير) من عوامِّ المصلين على الإمام. فالذين لا تفوتهم صلاة الفجر جماعة، يتندَّرون على لداتهم، حين يُسألون، أو حين يُضربون، أو حين يُعاقبون بمصادرة شيء من ملابسهم. والذين يحفظون مبادئ الدين، يتجمّعون للتندُّر على من لا يحفظونها، أو يرتبكون حين يسألهم الإمام الأسئلة البدهية المعروفة:
- من ربك؟
- من نبيك؟
- وما دينك؟
والعوام يُرتج عليهم، وإن كانوا يعرفون (الرب والنبي والدين)، حتى أنّ البعض منهم يبلغ به الارتباك حداً يطلب معه الإرشاد. فإذا قال له الإمام:
- من ربك؟
- قال المأموم: أرشدني عفا الله عنك.
- فيقول له الإمام: قل ربي الله.
- فيقول: قل ربي الله.
- فيقول له الإمام: قلها أنت.
- فيقول المأموم: قلها أنت.
وقد يأخذه الحمق فيصيح بالمأموم:
- : قم لا ألهمك الله رشدك.
- فيصيح المأموم: قم لا ألهمك الله رشدك.
متصوِّراً أنّ هذا هو ما يحتاجه الميت في قبره. وقد يقع قريباً من ذلك مع (المطوفين). والمأموم يعرف بالفطرة والمعايشة ذلك كله. ولكنه حين يفاجأ بالبدهيات، يتصوّر أنّ وراء الأمر ما وراءه، وإنّ المعهود الذهني لا يكفي للإجابة. وكأنيِّ بهذا العامِّي وأمثاله لو سمع لغط القوم حول المواطنة، لاضطربت عنده المفاهيم، وحَسِب أنّ للوطنية مفهوماً جديداً، لم يعهده من قبل. نعم هناك اضطراب في المفاهيم، وتباين في الآراء، وتفاوت في الأداء، واستفحال في (الأُممية)، وتململ حول مفهوم الدولة وتعويلها. ذلك الحراك كلُّه لا تجهضه ردود الأفعال، وإنّما تروّض شوارده بتثبيت المؤسسة الدينية، وتستدرك شطحاته بتأصيل المؤسسة التربوية، وتطرد غربته بإشاعة المؤسسات الإعلامية.
فالحديث المتقحم عن (حب الوطن) وممارسة الحشوية، قد يثيران تساؤلات التخوُّف وكلمات التندُّر في آن. ومتى اضطربت المفاهيم حول المواطنة، أو مسمَّى الدولة، أو ضَعف الفعل وقلَّ الولاء، وجب تشخيص الداء أولاً واستجلاء الأسباب، قبل تلقين الولاء. فالناس لا يختلفون حول الحب، لأنّه جِبِلَّة، ولكنهم يتفاوتون في إجراءات التفعيل والأداء، وتحديد السمة والدافع بين الدينية، والقومية، والقطرية، والأُممية. وقد تضعف نفوس طائفة من المواطنين فيؤثرون العاجلة، ويتهافتون على لعاعات الدنيا، كالمرتشين والمطففين والغشاشين وسراق الوقت ومقلصي الجهد. أمّا الذين تخطفهم دعاة السوء من الشباب، أو الذين استحوذ عليهم اللاعبون المحترفون، فليست إشكاليتهم في حب الوطن أو كرهه، ولكنها في تكريس المفاهيم الخاطئة على حين غرة أو غفلة من حراس الثغور، وفي وقوعهم فرائس لذوي النوايا السيئة، أو أنّهم من فلول الُّلعب السياسية المتفلِّتين على الاحتواء. ولقد أدرك (علي بن أبي طالب) رضي الله عنه الفهم الخاطئ للدين عند خصومه الذين تقرَّبوا إلى الله بقتله، وقال: إنّهم من النار فرّوا. وإشكالية المشاكل في كيفية أطرهم على الحق، وصدِّهم عن الإيغال في الدين بدون رفق، وإنقاذهم من التنطُّع في الدين، والمروق منه كما السهم يمرق من الرمية. وإشكالية الوطن تنبعث من ثلاث فئات: من الموغلين في الدين كما أغيلمة قريش. ومن المنتمين إلى أساطين الُّلعب السياسية دون وعي. ومن المتّسمين بالإسلام مع وقف التنفيذ، على حد: (قالت الأعراب آمنّا ....). وبعض تلك الظواهر لا تُعالَج بالممارسات الانفعالية، ولا بالتلقين، لأنّ الموغل، والمنتمي، والمتسمي، يمارس كلُّ واحد خطيئته بقناعة. وليس هو باحثاً عن الحق. والمنقب في صفحات التاريخ الحديث تروعه قوافل الشباب المغرّر بهم، ممن خدروا بالخطابات الانقلابية المسكونة بهواجس الثورات الأوربية، القائمة على تصفية الأنظمة والأديان، وممن أصابتهم حمَّى الشعارات الجوفاء، يوم أن كانت أوطانهم فريسة الأسلحة المشتراة بخبز الجياع وعرق الكادحين. حتى لقد صار الوطن يوم ذاك وثناً جاهلياً، كما العجوة التي يعبدها الجاهلي، حتى إذا جاع أكلها، أو كما الحجر الذي تبول عليه الثعالب. وحين تثار قضايا الحب، تتداخل المفاهيم حول حقيقة (الحب) ومقاصده. ومخزون الأذهان من الخطابات الثورية قد يَحمل على تقويل الصادقين المتحمِّسين من أجل حمل الكافة على الحب الإيجابي ما لم يقولوا. وهروباً من التوثين الثوري، تستيقظ مفاهيم الولاء والبراء، وتؤخذ بغير حقها، ثم تكون فرصة للمغرضين والمزايدين.
و(الحب) جِبِلَّة، لا يُسأل عن كمونها، وإنّما يُسال عن توظيفها {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} «آل عمران: 31». والمحب لا يتشكَّل حبه بالتلقين، وإنّما ينمو كما البذرة بالمعايشة والقدوة والتربية السليمة، ويتأصَّل بتمتُّع الإنسان بكافة حقوقه، ولهذا قال الشاعر العربي: (وما حب الديار شغفن قلبي)، فالمواطنة في النهاية (مقايضة). فالإنسان يُولَد على الفطرة، ويُولد معه حب فطري جِبِلِّي، يميل به صوب ثدي الأم وحضنها، ثم ينمو هذا الحب، ويتحوَّل من الفطري الخالص إلى الفطري والكسبي، ويمتد من الأم إلى الأب، ومنهما إلى أشياء كثيرة، حتى يمر الطفل بما يُعرف ب(الاستقطاب حول الذات).
ولقد اختلف الفلاسفة والنفسيون والعلماء حول حدود الحب ومجالاته، كما اختلفوا في التفريق بين (الحب الجِبِلِّي) و(الحب الكسبي) و(الحب العقدي) المحكوم بضوابطه الشرعية. وإذ يكون من لوازم الإيمان الحب في الله، والكره في الله، فإنّ الرجل يكره الكفر والكافرين، ولكن قد يكون والداه أو أحدهما كافرين فلا يمنع إلاّ من طاعتهما في الكفر، وقد يأخذ بالرخصة، ويتزوج (كتابية) باقية على دينها، فيختلط الحب العقدي المعروف بالولاء والبراء بالحب الجِبِلِّي، وهنا يقع الحدِّيون في معضلات الحب وأنواعه، وإمكان التفريق بين حبّ في الله وحب جِبِلِّي غريزي.
ومن غبش الحب في الإسلام، أنّه يكون حباً تعبُّدياً أو حباً جِبِلِّياً. والقليل من المتعاملين من يملك القدرة على فرز الخلطة بينهما، وتحديد المحظور والمباح، ويدخل في ذلك التعظيم والاحترام وضوابطهما وصور ذلك، والجمع بين أحاديث الأمر والنهي، وتعارض القول والفعل، وإذ يكون القرآن الكريم تبياناً لكلِّ شيء، فإنّ التماس الضابط لا يتأتّى إلاّ للراسخين في العلم. وأزمة الدول الإسلامية الملتزمة تكمن في مواجهة (البروتوكولات) الرسمية، كتنكيس الأعلام، وأيام الحداد، وتبادل التهاني في المناسبات، وأشياء يعرفها (الدبلوماسيون)، والأزمة تزداد تأزيماً حين تكون الدولة عضواً في الأُسرة الدولية بفاعلية وأهمية، فهل تساير أو تتحفَّظ؟ وهل تُعَد المسايرة داخلة في الاضطرار أو لا تكون؟، ويجب أن نعرف كيف يحترم اليهود شعائرهم (السبتية)، والتزامهم بمقتضياتها، وقيام دولتهم على نصوص توراتية، وتحميس الرأي العام الأمريكي من خلال نصوص إنجيلية، والتزامهم (السبتي) قد يخل ب(البروتوكولات) الرسمية، وما أحد عاب عليهم ذلك. وإشكاليتنا تستحكم حين لا نفرِّق بين العادات والعبادات. والبدع والمستحدثات الدنيوية. والأفكار والعقائد، وحين يتقحم القضايا من لا يعرف حدود ما أنزل الله.
والقول في الوطن والمواطنة بغير علم ولا كتاب منير يجر ألْسنة وأقلاماً إلى مزالق الفتن، وقد يعرضها لنواقض الإيمان جهلاً لا إصراراً. والكلام في (الحب الوطني) يفضي بالمتحدِّث إلى المجال والحد والمباح والمحظور، وتقليب هذه القضايا في ظروف اشتد فيها ضرب الأدلّة بعضها ببعض قد يدفع إلى سحب ملفّات ساخنة تزيد في الإشكالية بسطة. والحب المترجم بالفعل الذي جسَّده آباؤنا مع (الملك عبد العزيز)، لم يتلقّوه تلقيناً، بل شربوه مع لبن أُمهاتهم، وأحسب الأسوياء من الأبناء والأحفاد كسلفهم، وظواهر المفاهيم الخاطئة والفتاوى الحدِّية لا يجهضها إلاّ تجفيف الحواضن، وتجهيز خطاب أقوى، يسبق إلى الأدمغة الفارغة، ومادة (التربية الوطنية) وُلدت مبتسرة، ومن ثم لم تنهض بالمهمة المرجوّة. ولا أتوقّع أنّ هناك إخلالاً ظاهراً في الحب، بحيث يستدعيه البعض، وإن كان ثمة حاجة إلى تجديد مفهوم المواطنة على وجهها في النفوس المضطربة، فإنّ ذلك شأن التعليم والإعلام، وسائر المؤسسات الثقافية. وطريق ذلك في فهم الإشكالية، وتصوُّر الحل، وتقديم التطمينات بين يدي الحديث.
لقد وثَّن الثوريون (الوطن) و(اللغة)، وكانت ردّة الفعل في نفي (الوطن) وإحلال (الأُممية)، ونفي (الوحدة العربية) وانتظار ما لا يأتي من تطلُّع إلى الخلافة الإسلامية. وكلُّ تطرُّف في المفاهيم يقابله تطرُّف مناقض، وبين التطرُّفين تضيع الحقيقة، إنّ علينا تنقية الأجواء من دخن الخطابات الثورية المحيلة إلى الثورة الأُم، واعتماد خطاب إصلاحي شمولي يتفادى الذوبان والشذوذ معاً، بحيث يتعصرن ولا يتغربن.
وقد يكون من المناسب في ظل الغلو الأُممي معالجة المفاهيم حول (النزعة الأُممية) وحدود الأخوة الإسلامية، إذ لا تعارض بين الوطنية الإقليمية والأُممية الإسلامية، إذا أخذنا بحقِّهما، وفق الضوابط الشرعية، وبخاصة حين يتناغم فقه الأحكام مع فقه الواقع. ولقد عالجتُ كثيراً من هذه القضايا في كتابي (أبجديات سياسية على صور الوطن) في الفصلين الأول والثاني، واجتهدت ما وسعني الاجتهاد في الابتعاد عن الغلاة وحدِّياتهم الصارمة ورؤيتهم التي تشكّلت في وقت القوة أو في ظروف جهاد الدفع.
والحب بكلِّ أنواعه ومجالاته صعب وطويل سلمه، والقول فيه رجم بالغيب، ومفهومه يشكِّل عقبة في طريق الوفاق. ولقد كانت للفلاسفة تهويمات حول مفهومه، وبعض الخائضين في شأنه العقدي والجنسي والإنساني والجمالي والجلالي يحيلون إلى مقولات هلامية (لجلال الدين الرومي). و(زكريا إبراهيم) في كتابه (مشكلة الحب) يحاول أن يطمئن المتلقِّي فيقول: (إنّ الحب حَلٌّ لا مشكلة وتفسير لا أحجَّية)، غير أنّ المشكلة في التمثُّل والتطبيق والمجال، وكم نرى ونسمع مقولات معسولة عن المواطنة من أُناس يخونون أماناتهم. والإسلام لا يحصر المسؤولية بل يعمِّمها (كلُّكم راعٍ) فالموظف الذي يختلس الوقت أو المال، والمواطن الذي يخالف النظام، أو يتحايل عليه، لا يكونان مواطنين أسوياء، وإذا كان الوفاء للوطن درجات، فإنّ الخيانة دركات فالمختلس للوقت أو للمال أقلُّ خيانة ممّن يقتل النفس التي حرّم الله، أو يدمِّر ثروات الوطن، وأخطر الجنايات نقض العهد، والخروج على جماعة المسلمين، وأخطر المشاكل الفراغ الدستوري، ويقظة الفتن النائمة. ومكمن الداء ليس قصراً على الفئة الضالة، ولكنها أيضاً في الفئة المقصِّرة في مواجهتها، أو الخائنة للأمانة. وما الفساد الإداري، وضعف مخرجات التعليم، والتستُّر والتحايل على الأنظمة إلاّ لون من التقصير الضائع دمه بين شرائح المجتمع.
والتساؤل القائم: هل الإنسان مجبول على الحب أم على الكره؟ ولكي نقر في الأذهان ما نود أن يحسم المشكلة نقول: لا شيء يتميَّز إلاّ بضده، بمعنى: لا نعي النور إلاّ بتجربة الظلمة، ولا نتذوَّق الصحة إلاّ بتجرُّع مرارة المرض. ولا نعرف الحب إلاّ حين نعيش الكره. فالحب ليس قائماً بذاته، إنّه ضديه بمعنى أنّ الحب للشيء لا يتحقّق إلاّ بالكره لمقابله، فأنت لا تحب شيئاً حتى تكره ضدَّه، فإذا أحببت الحياة فأنت بالحتم تكره الموت، وأنت حين تحب الله، يجب أن تمتثَّل أمره {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ} «آل عمران: 31»، وجذر الحب في القرآن الكريم يدور حول (الامتثال والأداء)، وليس حول الهيام والادعاء. إذ متى كان هناك حب كان إلى جانبه كره. والذين يجنحون إلى المفاهيم (الغاندية)، ويتوسّعون في مفهوم (التسامح) كما هو عند (جودت سعيد)، يذرون المقابل كالمعلقة، وعيب المشهد الثقافي أنّه يفصل الحب عن مقتضاه القائم على (الامتثال والأداء)، ولغط المختصمين توجّهه تقلُّبات الطقس السياسي، حتى لا يَجد المرء حرجاً من مناقضة نفسه بين عشيَّة وضحاها.
|