إلى من اجتاحته الأمراض الجانحة..
إلى من يسكن أعماق قلبي..
رسالة معطرة بأريج الزهور..
رسالة معطرة بأزاهير الحب..
رسالة حب تحمل بين طياتها أنوار المحبة..
يا من اشتاقت إليك القلوب..
يا من اشتاقت أفئدتنا إلى رؤياك.. ولمسامرتك.. والجلوس معك..
تشتاق نفسي لمحادثتك.. حديث ودّ ومحبة..
يعبر قلمي عن مشاعر فاضت بالحزن والعبرات الجياشة الخانقة التي اعتملت في صدري وكل كياني..
فكم كان نبأً مؤلماً.. وخبراً مفجعاً.. رحيلك يا والدي..
مصاب جلل ذلك الذي خيم حزنه العميق على وجوه أركان بيتنا الكبير..
ولكن للأيام صروفها والله يقدر لنا ما ليس في الحسبان..
كان قدرنا جميعاً أن نسمع أن يد المنون قد اختطفت والداً عظيماً بإنسانيته وبقلبه الكبير. الموت والفراق يشعرانا بالحزن والألم والتوجع.. ويخلقان جراحاً غائرة عميقة في قلوبنا لغياب أو فقدان من نحبهم.. إلا أن هذه الجراح لا تندمل إلا بالصبر وقوة الإيمان..
ما أصعب الرثاء وما أقسى الفراق.. تضيق أمامي فضاءات العبارات على اتساعها عند الحديث عن فقدك يا والدي..
رحلت يا والدي فبكيت من حرقة الفراق..
آه.. يعجز القلم عن الاسترسال في الحديث عنك يا والدي لذا أصبح تجميع الكلمات بحقك أمراً بالغ الصعوبة..
إن القلم جفت مدامعه.. والكلمات عجز عنها اللسان ليرثيك يا والدي..
آه.. يا والدي لو تعلم بما في قلبي من حرقة على غيابك..
وفاتك أطفأت شعلة السعادة التي كانت تضيء في داخلي..
يا والدي.. يبكيك الفقراء والمساكين - أبا المساكين - سعيت في رفع معاناتهم، وفك كربتهم، وقضاء ديونهم، رحمتهم وألنت لهم الجانب، فكم من مدين كنت سبباً في قضاء دينه، وكم من فقير رفعت عنه ألم الحاجة، وكم من مسكين فرجت كربته!
يا والدي.. تبكيك الأرامل والمطلقات وأحببنك الحب كله فقد كنت السباق في كل خير يصل إليهم.
لقد كنت يا والدي تأخذ بقلب كل من عرفت عن قرب لذوي الحاجات والضعفاء راعياً لهم تبادرهم قبل السؤال وتغدق فوق ما ينتظرون، وكل ذلك ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى.
كريم اليد بجاهك ومالك، سريع المبادرة والتجاوب، عالي الهمة والشهامة وكرمك الدائم الذي لا يعرف الملل والسآمة.. تبذل جل وقتك لقضاء حوائج المحتاجين.. كنت ساعياً في حاجات الناس سعيداً بهذا السعي متمتعاً به..
كنت سباقاً لتلمس حوائج الناس حتى تقضيها لهم.
فكم من دمعة مسحت، وكم من عورة سترت، وكم من جائع أشبعت، وكم من ظامئ رويت بمواقفك النبيلة العالية.. أرجو الله أن تكون ممن ينطبق عليهم الأثر القائل: (إن لله عباداً اختصهم بقضاء حوائج الناس حببهم للخير وحبب الخير إليهم، إنهم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة).
إن كان الحديث عنك يا والدي بوجودك صعباً فلا شك أنه بعد رحيلك أصعب.. وفي كل يوم نودع قريباً وصديقاً، ونحن على آثارهم سائرون، والعبرة في ذلك أن هناك فئة قليلة ممن رحلوا يتركون أثراً في القلوب فتستمر الحسرة على فراقهم..
والدي.. لقد أضأت دنيانا بمآثر خالدة..
علمتني الحلم عند الغضب وألا أستعمل التعبير الجارح في التفاهم وعدم الكذب والنكوث بالوعد والترفع عن صغائر الأمور..
علمتني السعي في سبيل الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن أكون ناصحة لله ورسوله، معينة لذي حاجة، مغيثة لملهوف..
نراك ليناً هيناً لطيفاً؛ فلم أسمع منك كلمة نابية أو لفظاً جارحاً مصداقاً لقول الله - عز وجل -: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}.
تتميز بالصبر ولست ثرثاراً، وإنما كنت قليل الكلام إلا في ذي جدوى، في طبعك الهدوء في كل الأحوال فلا نراك إلا هادئاً مطمئناً..
كنت عفيفاً، نظيف اليد واللسان، ولم تكن لعاناً، أو سباباً..
لم أسمع منك أنك ذكرت إنساناً بسوء..
كنت تقابل الإساءة بالإحسان والجفوة باللين.. فالعفو عند المقدرة هي سجاياك..
إن قلبك يشف.. ويشرق.. ويفيض بالنور.. ويرف كالشعاع.. قلب لا يوجد فيه مساحة أو موضع إبرة من حقد على مسلم..
لا يعرف الحقد إلى قلبك طريقاً.. ولا يعرف الثأر لنفسه..
وجهك المشرق تقابل به القريب والبعيد.. حباك الله بنور يسبق مصافحته للقادم إليك.. ودائماً ما يتسم تعاملك مع الجميع بلمسة أبوية حميمة وبرقة فياضة تشعر المتحدث بأن له مكانة خاصة..
كم كنت عظيماً في تعاملك في قولك وفي فعلك.. نائياً عن النرجسية وحب الذات.. إنك كالنهر العذب يشدّ الناس بجماله وعطائه.. يصل القلوب بأخلاقه وحبه للناس..
عرف فيك النبل والخلق والسماحة الندية والوفاء المقيم..
إن (أخلاقك) هي التي أعطتك الهيبة والقيمة والمكانة..
هي التي أهلتك لتحتل هذه المكانة في قلوب الناس..
أصبحت مثلاً أعلى وقدوة حسنة للجميع أجمعوا عليه إجماعاً لا يقبل الشك ولا الاختلاف..
كريم النفس سخي اليد فلقد كان بيته مفتوحاً تسطر أفعاله في الجود مع حاتم طيء وهرم بن سنان والمكارم والمفاخر يصنعها (رجال) مثلك.. حيث كان من كرمه أن يعطي كل شيء ولا يبقي لنفسه إلا اليسير ويصدق فيه ما قيل:
ولو سئل النفس لجاد بها
ألا فليتق الله سائله
يفعل الخير ولا ينتظر ثوابه إلا من الله.. لا ييأس على ما فاته فإنه قد وطن نفسه على الإيثار، وعودها على العطاء.. كان كالشمعة تحرق نفسها لتضيء لغيرها..
فقد كان طود الخير الذي يلجأ إليه ذو الحاجة ولا يزال هذا الطود قائماً أشم يتجسد في أبنائك وبناتك..
وحينما أتحدث عن مواقفك الإنسانية فلن تكفيها أمهات الكتب؛ فهي لا تعد ولا تحصى؛ فكرمك وفضلك قد طال الصغير والكبير.. وبهذه الصفات تبوأت مكانة عظيمة في قلوب المحبين والأقارب والأهل.
صنعت المجد والعز والتمكين من قلوب الناس، فكان أن كتب الله لك الحب في نفوس الناس والذكر الجميل، قد أجمع الناس على حبك وإجلالك والناس شهود الله في أرضه والله عند حسن ظن عباده به..
ومن المعالم البارزة في سيرته النظام والدقة؛ فلم تكن الفوضى تعرف طريقها إليه فإن النظام والدقة معلمان بارزان في شتى أحواله.
كان مشيحاً بوجهه عن الدنيا مقبلاً على طاعة الله وعبادته ونفع الناس.. فكان جلاسه يأنسون به أياً كانوا، وكان مجلسه يجمع بين الجد، والحكمة، والمتعة، والفائدة.. لقد راودته الدنيا من كل جانب وغلقت الأبواب، وقالت: هيت لك، لكنه قال: معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي.
كان منهجه الإخلاص لله - سبحانه وتعالى - جعل حياته وقفاً لله وللدعوة، يجد راحته ومتعته في طاعة الله - عز وجل - يعمل في صمت، وفي سرية؛ ابتغاء وجه الله تعالى، والمسلمون هم شهداء الله في أرضه، والأحاديث النبوية في ذلك كثيرة، منها: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان).
منذ أن وعت عيني على الدنيا أشعر بأنه ليس كأي أب عادي.. في نظري الرجل الملتزم دينياً وعلمياً وأخلاقياً، أسلوبه العتاب الراقي عند الحاجة.. أغلب مكوثه في المنزل قارئاً لكتاب الله.. إنه عنوان لترسيخ القيم والمثل والشيم والأخلاقيات..
كانت توجيهاته تنزل على قلبي كما ينزل المطر على الأرض الجرداء، لا أنسى كلماته الرائعة دائماً يرددها على مسامعي: (لا تطلبي من أحد أن يحبك بل اجعليه يحبك)، كان يوجهني ألا أهاجم أحداً أو ألومه قبل معرفة واقعه وإمكاناته وقدراته.. لا أنسى توجيهاته لي في الإكثار من مدارسة القرآن، وحفظ آياته الشريفة عن ظهر قلب، رسخ فينا أن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب، كما ثبت ذلك عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقول: شتان بين من يقرأ ولا يفهم معنى ما يقرؤه وبين من يقرأ ومعاني القرآن الكريم حاضرة لديه؛ فالأول كالأعمى يمشي في الطريق لا يبصر منها شيئاً، والثاني لصاحب البصر يتقي ببصره الزلل.. يا بنيتي.. اقرئي القرآن صباحاً ومساءً، وفي كل وقت ولا تكوني ممن لا يعرف القرآن إلا في رمضان.
ولا أنسى توجيهاته لي في الحجاب فقد كان يقول: يا بنيتي.. المحجبة جوهرة، ياقوتة محفوظة من أعين وأيدي الخائنين كما تحفظ اللآلئ في أصدافها.. أما المتبرجة فهي تعرض جمالها في الأسواق والشوارع كما يعرض بائع الذهب والجواهر بضاعته أمام أعين الجميع.
لقد تخرجت في مؤسستك يا والدي التي قامت على تقوى من الله تعالى.. من أجل صياغة شخصيتي الإنسانية صياغة ربانية، كما أوضح النهج القرآني..
لقد كنت تجسد أروع صور الحب الإنساني وأكرم مقاصده وأنبل أهدافه..
تقدمت بك السن وأصبت بالمرض فكنت صابراً لا تشكي ولا تبكي، لم تمنعك شدة المرض الذي كان يقطع جوفك ويمزق أحشاءك من السؤال عن الصغير والكبير ومساعدة المحتاجين، فكنت تتألم لحزن أمتك وتتحسر على حالها، وأنت على فراشك طريح، وكان قلبك يتوجع لأوجاعها.
هناك صدع في الفؤاد لا ينجبر أبداً.. سببه وفاتك يا والدي، وإن مما يخفف وقع هذا المصاب ما شاهدناه من طوائف المعزين الذين تقاطروا من كل مكان؛ فتلك الجموع الغفيرة التي اجتمعت للصلاة عليك وتلك الحشود التي شيعتك وتلك الأعداد المتناهية التي حضرت للتعازي تدل - إن شاء الله - على القبول والشهادة بالخير والصلاح.. فحتى المرضى والعاجزون حضروا في عربات لأداء واجب العزاء ولم يمنعهم عن المجيء ظروف المرض والعجز وكبر السن..
نعم عندما يحب الله شخصاً فإنه ينزل محبته في قلوب الناس فهنيئاً لك يا والدي بهذا الحب؛ ولهذا أحبك الناس؛ فصدق عليك الحديث الشريف: (إذا أحب الله تعالى العبد نادى جبريل فينادي في أهل السماء أن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) متفق عليه.
قليلون هم الرجال الذين تبقى ذكراهم بين الناس وصفاتهم محل تقدير واعتبار.. والدي الحبيب.. هل أستطيع البوح بما في قلبي من مشاعر الحب؟
والدي الحبيب.. كيف يمكن أن يعبر الزهر عن فقده لنداه؟
والدي الحبيب.. قبل رحيلك كنت أرى الزهور بلون أكثر بهجة وإشراقاً.. كانت جدران البيت وأنواره أكثر جمالاً وروعة.. وجودك في حياتي مثل فرحة الأرض التي تنبت الزرع بعد جفاف.. كانت حياتي زاهية بوجودك مثلما تزهو الأشجار بأوراق زهور الربيع التي تنمو وتترعرع بعد صقيع الشتاء..
إنني لا أزال أختزن ذاكرتي المعبأة بكل عبق جميل عنك يا والدي. ملأت حياتنا بالأمل والبسمات تعطينا من منهل الحب الطاهر حباً لا ينتهي وحناناً لا ينضب..
إن جذوة الفجيعة تعود إلى التوهج من جديد كلما خطر طيفك أو لاحت ذكراك.. إني أراك يا والدي في كل شبر من البيت وطئته قدماك وفي سجادة صلاتك، وكرسيك الذي يحن إليك، وسبحتك التي تتطلع إلى أن تكون بين يديك حرمهما الله عن النار، ومصحفك الذي أرجو الله تعالى أن يكون شفيعاً لك.. أشتاق إلى رؤية عينيك.. وسماع صدى صوتك في كل اتجاه اتجهه.. إني أرمق بصمات وجودك في كل ركن في منزلنا ولمسات حنانك بيننا..
وإذا أنت يا والدي غادرتنا بجسدك فإن أفعالك وأعمالك الجليلة ستظل باقية أبد الدهر مشعل ضياء ونبراس نور.. والأعمال الخيرة النيرة التي يشهد بها القاصي والداني والكبير والصغير، والتي يصعب تعدادها أو حصرها..
مهما طال الغياب يا والدي ولفتك الأرض فلن أنساك، لم ترحل يا والدي من بيننا بل ستظل دائماً رمزاً للعطاء والبناء ورائداً ونموذجاً، أنت في أذهاننا ذكرى عطرة وقصيدة حب غنتها القلوب قبل الشفاه..
حقاً إن فقد الوالدين موجع ومؤلم للنفوس غاية الإيلام، لكنها سنة الله، {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}.. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}.. ما أشد ظلمة الحياة حينما تفقد عزيزاً أو قريباً، لكنه قدر الله ولا معقب لحكمه ولا مبدل لكلماته، فما أقرب الموت من الحياة، وإن الموت والحياة لعبرة؛ فهذه هي حال هذه الدنيا لا تبقى على حال، دائمة التقلب.. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
والدي.. إن الأعمار ودائع مستردة.. فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه، وأسأل الله - جلت قدرته - أن يكتب لك المنزلة العالية في الجنة التي جاءت البشرى بها في حديث أبي سعيد الخدري، كما روي في مسند الإمام أحمد، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله ليكتب لعبده المؤمن المنزلة العالية في الجنة فيعلم أنه لن يدركها بعمله فيبتليه بأنواع البلايا من أجل أن يوصله هذه المنزلة).
وأخيراً يا والدي.. هذه نفثة مصدور كتبتها بمداد المحبة وغلاك يا والدي لا تكفيه الكلمات، ولا أدري إن كانت رسالتي هذه ستصل في موعد مناسب، لألفّ نفسي وإياك بخيوط الأمل القريب بإذن الله تعالى.
سنذكرك في كل حين وسندعو لك في كل وقت.. فإلى جنة الخلد يا والدي، والعزاء في ذلك كله أنك قد تركت ونقشت في جبين الزمان صفحات جميلة مشرقة تتجدّد ذكراها مع مرّ الليالي والأيام. وأختم رسالتي يا والدي بقول الشاعر: