* تأليف: د. عبد العزيز الخويطر : قراءة: حنان بنت عبد العزيز آل سيف :
السيرة الذاتية فن نثري وهي نمط من أنماط الفنون الأدبية، وهي تعنى بحياة الفرد الشخصية والكشف عن مواهبه وأسرار عبقريته، والأحداث التي خاضها المترجم له وفق تسلسل زمني دقيق، والرابط بين هذه الأحداث هو الوحدة الموضوعية .. والسير الذاتية يمكن أن نصفها بأنّها حديث الإنسان عن نفسه، وقد تطوّر هذا الفن في أدبنا العربي من جرّاء التأثُّر بالسير الذاتية الغربية، فكان الأدباء يقرأون التراجم الغربية الذاتية وينسجون على منوالها، فغدت هذه التراجم الشخصية ضرباً من القصص الحي البديع، وكانوا يصفون أنفسهم بصحيحها وسقيمها وحسناتها وسيئاتها وصفاً دقيقاً، والبيئة والشخصيات والمشاهد والأماكن والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي لازمت حياة المترجم له، ولا بد فيها من توفُّر عنصري الانتقاء والترتيب وفق بناء واضح مرسوم ليكتب لها الخلود والبقاء والاستمرار، ولهذه السير الذاتية أنماط عدّة منها: الاعترافات والذكريات والمذكرات واللامذكرات واليوميات، وكان لكلِّ طائفة من العلماء سيرهم الخاصة، فالفلاسفة لهم تراجمهم والمتصوفة لهم تراجمهم، ورجال الحرب والساسة لهم سيرهم التي يضمنونها آراءهم وأفكارهم ووجهات نظرهم، فغدت هذه التراجم وثائق خطيرة في أحداث العصر الذي كُتبت فيه، وبين يديّ كتاب يبحث في مفهوم السيرة الذاتية، عنوانه (وسم على أديم الزمن - لمحات من الذكريات - الجزء الثالث) وقد جادت به مطبعة سفير العامرة، وبين ناظريّ الطبعة الأولى لعام (1427 هـ - 2006م) وفي مقدمة الكتاب إشارة من مؤلِّف الكتاب معالي الأديب الأريب عبد العزيز بن عبد الله الخويطر - حفظه الله ورعاه - إلى محتويات هذا الجزء الثالث، فيقول: (لقد احتوى هذا الجزء على سير مختصرة عن بعض العلماء البارزين، وبعض الأخبار التي سمعتها عنهم في أيام طفولتي، وبعض هذه الأخبار طريفٌ يضفي جواباً باسماً على حياة المجتمع حينذاك، خاصة القضاة وما له صلة بالناس ... .... وفي هذا الجزء لمحة عن حقبة كفاح ترك فيها الشباب عنيزة، وانداحوا في أرض الله الواسعة، بحثاً عن الرزق الواسع، الذي لم يجدوه في مدينتهم عنيزة، فنجحوا في مسعاهم، وأصبحوا رجال أعمال يشار إليهم بالبنان، .... .... وفي هذا الجزء كذلك صور متعدِّدة عن أمور هي لُحمة ذلك المجتمع وسَدَاه، وبدون وسمها لا يُعرف المجتمع على حقيقته، من هذه الأمور ما يخص الرجال، ومنها ما يخص النساء، ... ... وفي هذا الجزء كذلك صورة لفكر المجتمع حينذاك متمثّلة في أقوال وأمثالٍ وحكم، بعضها جاء بصيغته الصحيحة، وبعضها وصلنا محرّفاً قليلاً، بحيث نستطيع أن نصلح الخلل، أو محرفاً كثيراً، بحيث لم يبق منه إلاّ صورة لا تدل على معنى مفهوم، وهذا يشهد بمدى ما فعله تسلسل الرواية من جيل إلى جيل ومن فرد إلى آخر، بعض هذه الأقوال أو الأشعار أو الأمثال هي صورة صادقة لذلك المجتمع لأنّها مأخوذة من بيئة البدوي أو الفلاح أو التاجر، فمتناولها على هذا قريب وكله من وحي البيئة). وهذه السيرة الذاتية صوّرت أديبنا الخويطر بكلِّ ما فيه من نضج وكمال وقوة، فغدت هذه السيرة قطعة أدبية رائعة ذائعة، وللمؤلِّف - حفظه الله تعالى - من الأدباء قدوة وأُسوة، فالأديب طه حسين صوّر نفسه بكلِّ ما فيها من حسن وسيئ في الأيام، وأحمد أمين صوّر نفسه في (حياتي) وكلٌّ منهما أفاض على أدبه من فنه، فجاء الأثران على مستوى رفيع عالٍ من الدقّة والإبداع والابتكار، وفي هذه السيرة صوّر المؤلِّف البيئة والمحيط الذي عاش فيه تصويراً بارعاً، كما أودع كتابه الكثير الكثير من تجاربه وخبراته ومعارفه، ويحوي الكتاب نبذاً من الطرائف والظرائف التي تعين القارئ على الإمعان في قراءة هذا الأثر الطريف وهو في كامل متعته ونشاطه، والمطّلع على هذه السيرة يلفت نظره جمال الاعترافات الصريحة التي يُدلي بها المؤلِّف، حيث أمدّنا - حفظه الله - بمذكرات نفسية ذاتية هامة، تصف الحقبة الزمنية التي عاش في ثناياها الأديب الخويطر، واستطاع بقلمه الفذ، وبريشته الفريدة أن يزوِّد هذه السيرة بالكثير من التحليل النفسي للطبائع البشرية، فبدت هذه التحليلات النفسية على مستوى رفيع من البراعة والإجادة، وكأني بإزاء محلل نفسي على درجة عالية من القدرة على رسم خلجات النفس الإنسانية وتفسير سلوكياتها تفسيراً كاملاً ودقيقاً.
هذا وقد رسم المؤلِّف البيئة العنيزية بخصوصية ودقّة، وجاء هذا الوصف يرفل في حديث مستفيض، وزوّد سيرته بصور لأحياء عنيزة ومنازلها القديمة فغدا هذا الوصف من قبيل الصور الحيّة النابضة المتحركة .. ومن هذا الوصف حديثه عن القِرب وهيئاتها وأنواعها، وهذه السيرة الذاتية والمسيرة النفسية تلفت النظر إلى ما تختزنه ذاكرة المؤلِّف من صور قديمة ودقيقة، فقد حباه الله ذاكرة قوية لمّاحة عن حياته ونشأته ومحيطة، وفي السيرة تصوير جميل من شاهد عيان يعتبر من أبرز شهود هذا العصر وأدقّهم، وهو الأديب الخويطر، كما أنّها جاءت غنية بالجانب الاجتماعي ونظفر فيها بلمحات تاريخية مشهورة على كثير من الأحداث التي عاصرها المؤلِّف كإصابة الأطفال بمرض الجدري الذي فتك بمن هم قبلنا من الجيل القديم، والخويطر - رعاه الله - يزاول فن القصص في هذه السيرة، فقد جاءت بأجزائها الثلاثة ترجمة كاملة لشخصيته تارة، وتارة أخرى نلمح فيها أسلوب القصة القصيرة أو الأقصوصة.
وأخيراً يغلب على شخصية معالي الأديب الأريب عبد العزيز بن عبد الله الخويطر التواضع والجد والاجتهاد، مما يناسب توجُّهه العلمي، ومنحاه الأثري التاريخي، وثقافته التراثية العميقة عكست على شخصيته نكران الذات والتواضع الجم والبساطة والعفوية.
حفظ الله المؤلِّف في هذا الترحال العلمي، وأمدّ مجد السيرة الذاتية بطول عمره .. آمين.
عنوان المراسلة : ص. ب (54753) - الرياض (11524) |