يقولون: (فتش عن المرأة)، وأنا اليوم أقول: فتش عن الإدارة، وقد كتبت مقالا قبل نحو خمس عشرة سنة، في مجلة الغرفة التجارية بجدة، وأنا أتحدث عن بعض المؤسسات المختلفة، قلت: إن أي عمل ناجح وراءه إدارة ناجحة، وإن اي عمل فاشل تجد وراءه إدارة فاشلة. ولعلي كونت هذا الرأي أو هذه الرؤية من خلال تجربتي العملية وممارساتي في الحياة.
* في خضم حياتنا الدنيا التي نحياها، نجد ونرى في كل البلاد شعوبا عاملة منتجة جادة، مدركة أن الحياة عمل وعطاء وإتقان وإنجاز، ونجد بعض الشعوب غير آبهة بأمانة الحياة، وإنما هي أفراد وجماعات، همها مصالحها الخاصة وما ينهض بكسبها في تحصيلها من مختلف الأبواب والسبل، شعوب حية تدرك للزمن قيمة عندها، لأنها وعت ذلك، مما تعلمت في التعليم العام والجامعات، وفي مدرسة الحياة، بدأت بالتربية في بيوتها ومدارسها، وقادها معلمون واعون، أدركوا أن عليهم رسالة لا بد من أدائها فأخلصوا لهذه المهمة، لأنهم منتمون إلى أوطانهم، ولأنهم مدركون أن العمل حياة، وأن الرقي لا بد له من معرفة وعمل وإخلاص فيه، رسالة بين أعينهم وعوها جيداً، فأخلصوا لها كل الإخلاص، وأدركوا قيمة الزمن، وهو في ثقافتنا، عبر عنه بأنه كالسيف.. فنهضت أمم وشعوب ودول، ونامت أخرى نوماً طويلاً، وحين يلتفت المرء ليقارن، لا يستطيع أن يجد روابط، لأن المعادلتين مختلفتان أو متناقضتان ومتعارضتان ومتصادمتان.
* أمتنا المسلمة عبر تاريخها، كانت أمة جادة قوية إلى حدّ الصرامة ثم مرت بها أيام، ركنت فيها إلى الدعة والخمول وعدم المبالاة، بعدت عن رسالتها، فأدركها الضعف وعدم المبالاة والتخاذل، ركنت إلى الهزل واستلذت الفراغ والوهن، تقدم غيرها ووقفت في مكانها لا تريم، قلدت الغرب ولا سيما شبانها وشاباتها، وليتهم قلدوا غيرهم بما يرقى بهم وبحياتهم وعلوم الحياة الكثيرة، التي ترقى بهم وبأمتهم ومستقبل الأوطان، وإنما انجذبت وراء القشور وإلى الأدنى من معطيات الحياة، أمة أصبحت متواكلة لا يعبأ بها، لأنها فقدت الطموح والجدّ والحياة الكريمة، فهانت على نفسها وعلى غيرها.. بعدت عن تاريخها الباذخ بالمهمات والأهداف العالية فشاخت في صباها؛ لأن أحلامها قعدت بها عن المعالي.. أمة تقول ولا تفعل، فتأخرت، لأنها تخلفت عن ركب الحياة الجادة القوية فنامت، ولو وعت حقيقة دينها وتاريخها المجيد، وسارت على نهج عظماء الإسلام، لكانت أمة تتحدى الحياة لتكون، ولعلها اختارت ألا تكون، والذي ينسى خالقه ينسيه نفسه، كما أعلن الكتاب العزيز.. وهذه الحياة لا قيمة فيها للمتخاذلين القانعين السادرين.
* عنوان هذه الكلمة يقود إلى العمل وضده، وقلت إن الإدارة تقود إلى ما ينفع ويرتقي وينجز، وهو متطلب رسالة الإنسان في الحياة، حتى العبادة في جوهرها عمل، والكتاب العزيز قال الحق فيه: {وَقُلِ اعْمَلُواْ}، لكن أمة هذا الدستور بعدت عن هذه المعطيات، فرطت في رسالتها وأمانتها وقواعد نموها ورقيها، نامت ونهض غيرها، لأنهم عملوا، لإدراكهم لقيمة العمل في الحياة.. وإذا رأيت مؤسسة في علوها وانخفاضها ونجحها وفشلها، التفت إلى إدارتها، فهي مقياس حياتها ومواتها، والموت لا يعني مفارقة الحياة، ولكنها كما عناها أبو الطيب في قوله:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء |
* كم يتمنى المخلصون الجادون، أن يروا أمتهم من موظفين في كل مرفق، في المدرسة، في العمل، في الشارع، أن يروا كل إنسان في تخصصه، صادقاً جاداً، يكد، ويسعى لأن عليه رسالة وأمانة، تحمل تبعاتها، فهو يعمل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً؛ ليكون في مستوى المسؤولية، ليحاسب نفسه، ويلتفت إلى ما قدم، فإن وجد خيراً حمد الله، وإن وجد غير ذلك، استعان الله وشمر عن ساعد الجد وشرع بكل ما يملك من قوة وقدرة، ليؤدي أمانته، وذلك حين يتذكر أنه محاسب، أن وراءه جزاءً لما قدم، فإن أخلص وتفانى وأدى ما عليه، فله جزاء الحسنى، وإن فرط، فسيكون أمام حسيب وكتاب قال فيه منزله: {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.
* ما أجدر إنساننا أن يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، فهو الفطن الحي الخائف إن أهمل وقصر وفرط.. كم أتمنى أن يكون كل فرد في أمتي مدركاً لما عليه، أما ما له فهو نائله اليوم أو غداً.. وما أخلق من في كل إدارة ووزارة ومصنع ومتجر ومزرعة، ومدرسة وجامعة، أن يؤدي كل إنسان ما عليه، يغار من الغربي الذي يشبه النحلة، مخلصاً صادقاً أميناً في عمله، وأمة لا إله إلا الله مفرطة كل التفريط؛ لأنها نسيت، وأهمتها الدنيا، فهي هلوعة، تظن أنها مخلدة، ومن العجب العجاب، أننا لا نتعظ، وقد قيل: كفى بالموت واعظاً، ولكن حتى هذا لم يؤثر في حينا، لأننا سادرون، وصدق القائل: الناس نيام، فإذا ماتوا استيقظوا، لكن ما قيمة اليقظة بعد ذهاب كل الصلاحيات والقدرات، التي خلفها الإنسان وراءه في الحياة؟ الجواب كما قيل: فات الميعاد.
* ليت من بأيديهم مسؤوليات كبرت أم صغرت يدركون واجباتهم، فينهضون بها ويؤدونها، لعل الله أن يتجاوز عنهم، كما قال ذلك الرجل لغلامه: (إذا أتيت معسراً فتجاوز عنه، لعل الله يتجاوز عنا)، وقد تجاوز الله عنه؛ لأنه محسن، وكم أتمنى أن يكون كل من بيده مصالح الناس وشؤونهم محسناً في أدائه، ويراقب من يرقبه في كل شيء، لأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. والحق يقول: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ}.. اللهم أعنا على أنفسنا حتى لا نضل، وأعنا على أعدائنا حتى لا نذل.
|