اللغة بالنسبة للاقتصاد الحديث، أي اقتصاد السوق في مقابل اقتصاد المعيشة، مسألة محورية مثل النقود، وتنشأ أهميتها الحاسمة من كون النشاط الاقتصادي يعتمد على الاتصال بدرجة كبيرة للغاية وأن العناصر الأساسية للاتصال الاقتصادي عناصر لغوية وعلى الرغم من عدم وجود نشاط اقتصادي من دون اتصال، فإن الاتصال يستلزم تكاليف ترجع جزئياً إلى التعدد اللغوي في العالم.
فالقرار الذي تتخذه وحدة اقتصادية معينة سوف يعتمد في الغالب على التكاليف النسبية للبدائل إذ يمكن افتراض أن القوة الاقتصادية للغات المستخدمة تقوم بدور مهم.
والاستثمار في اللغة بوصفها رأسمال إنسانياً أو بوصفها سلعة تحتاج إلى اعتماد مالي بقدر كبير أو صغير وسواء أكان هناك فهم اقتصادي أم لم يكن على الإطلاق، فإن الاستثمار في لغة معينة لغرض أو آخر هو مسألة تكاليف وأرباح، ووضع هذه المسألة في الاعتبار أمر أكثر أهمية بالنسبة للمشروع الخاص مما هو بالنسبة للحكومات.
اللغات إذن، قابلة للتقويم على نحو اقتصادي، إذ يتم تبادلها في السوق، وتحتاج إلى الإنفاق عليها، كما أنها بسبب اختلافها تمارس تأثيراً في العملية الاقتصادية، ولكنها تتأثر بها أيضاً، كما أنها تستجيب إلى الاحتياجات الاقتصادية.
إن انتشار اللغة كثيراً ما يكون علامة على الظروف الاقتصادية، وفي بعض الحالات يكون نتيجة للتطورات الاقتصادية لأن تغير أوضاع الاقتصاد يجبر المجتمعات على أن تعدل ذخيرتها الكلامية وأنماط اتصالها.
والقول إن المرء الأكثر تعلماً هو الأكثر ثراء ليس أصح من القول إن البلد ذا المعدل الأقل في الأمية يملك أعلى متوسط دخل فردي، فهؤلاء الذين بصعوبة يكتبون أسماءهم ليست لديهم فرص اقتصادية أفضل على نحو أكبر من هؤلاء العاجزين عن الكتابة تماماً وعلى المستوى الاجتماعي فإن الثراء لا يعني المعرفة العامة بالقراءة والكتابة.
إن الكتابة .. بوصفها وسيلة لإبقاء اللغة، تجسد أول ثورة اتصال في التاريخ الإنساني، فالإنسان منذ أقدم العصور لم يستغن عن هذه الوسيلة القيمة، والمرحلة المبكرة للمجتمع المتعلم لاتزال مفيدة من أجل فهم صحيح للجوانب الاقتصادية للاتصال اللغوي، ومنذ البداية كانت الصلة بين الاقتصاد واللغة المكتوبة صلة ذات تأثيرات متبادلة.
وعلى المستوى الاجتماعي وُجدت اللغة المكتوبة وانتشرت استجابة للاحتياجات الاتصالية المتأصلة في الاحتياجات الاقتصادية، وبفضل تجاوزها لحيزي المكان والزمان فهي تمكن الفرد والمجموعات الاجتماعية من مدِّ مجال الاتصال إلى ما وراء المحيط المشترك للمتعاملين الموجودين معاً.
إن اللغة في حد ذاتها تُعدُّ شرطاً أساسياً للحياة الاجتماعية، وكل لغة هي نتاج للحياة الاجتماعية.
وعلم الاقتصاد هو البحث عن مؤشرات أمثلية الكفاءة لعلاقات الوسائل الغايات في أداء المهام.
وبما أن كل اللغات تستعمل استعمالاً غائباً بوصفها وسائل لغايات معينة، فكل لغة يمكن أن تقوم بالنظر لمزاياها في إنجاز هذه الغايات، وبالتالي تكون خاضعة لتحليل اقتصادي اتصالي، أي البحث عن أنظمة الاتصال الأكثر مناسبة لسلم قيم معين.
وهذا الفرع من اقتصاديات الاتصال واقتصاديات اللغة فرع معياري على نحو ضمني بما أنه يتعامل مع أنظمة نموذجية وليس مع أنظمة واقعية، فهذا البحث يُعنى بالخصائص التي تملكها لغة معينة لسد متطلبات معينة كما تحددها سياسة لغوية مقررة على سبيل المثال.
يقول فلوريان كولماس في كتابه الرائع (اللغة والاقتصاد): اقتصاديات اللغة تعالج الأنظمة الفعلية، ومركز اهتمامها هنا هو: لماذا تكون لغات معينة على ماهي عليه؟! أي لماذا تسود خصائص معينة ولا تسود أخرى؟!.
وعلى الرغم من أن هذه المقارنة تقوّم الأنظمة الفعلية وليس المخططة، فإنها تعنى أساساً بالنوع نفسه من المؤشرات، أي تلك المؤشرات التي تحدِّد فعالية النظام.
وشروط الفعالية من هنا لا تختلف في النوع عن شروط الكفاءة، وبهذا المعنى فإن مسألة فاعلية لغة معينة يمكن فهمها باعتبارها مسألة اقتصادية.
إذ علم اللغة لا يكون معقولاً بشكل موضوعي من دون مفاهيم اقتصادية، وهذا ما أثبته بورديه من بين آخرين على نحو لافت للنظر.
وعليه، يمكن التمييز بين مفهومين لغويين للقيمة، كل منهما مأخوذ على نحو مجازي من المفهوم الاقتصادي الأصلي على الرغم من
اختلافهما في المضمون.
وأول تمييز يجب أن يقام هو التمييز بين المفهوم الوصفي والمفهوم المعياري، فالمفهوم الأول يتصل باللغة بوصفها نظاماً رمزياً، والمفهوم الأخير يتصل باللغة بوصفها مسألة اجتماعية. وبناء على هذا فإن المفهوم الوصفي للقيمة يمكن أن يُعزى لمجال علم اللغة فحسب، بينما ينتمي المفهوم المعياري للجهاز المفاهيمي للعلوم المختلفة التي تعالج استعمال المجتمع للغة.
على مستوى النظام اللغوي فإن الاقتصاد كثيراً ما وضع أو بالأحرى تأكد بوصفه مبدأ مكوِّناً، أي الاقتصاد في الأدوات التشكيلية المستخدمة في تمثيل معنى معين.
وقد كرّس له (بول) فصلاً من أفضل فصول مؤلفه الكبير بعنوان (اقتصاد التعبير) إذ يقول: سواء استخدمت الوسائل اللغوية باقتصاد أو بإفراط فإن هذا يعتمد على الاحتياجات، ولايمكن إنكار أن هذه الوسائل كثيراً ما تستعمل بإسراف، ولكن كلامنا، على العموم، يحمل ملامح اقتصاد معين.
و(يسبرسن)، مثل (بول)، يعزو لاقتصاد التعبير دوراً مركزياً في تفكيره عن طبيعة اللغة، فالتغيّر اللغوي، في رأيه، هو أساس مظهر للميل العام نحو الاقتصاد في الجهد، ولكن على عكس (بول) كان (يسبرسن) أكثر اهتماماً بالنظام اللغوي.
إذ معيار البساطة مثلاً، هو تنوّع جديد على قيمة قديمة هي قانون الاقتصاد الذي نادى به (سكولاستيو)، وهو القانون الذي يتطلب الاقتصاد في صياغة النظرية.
وهكذا نلمس الأهمية الاقتصادية للغات وتأثير العوامل الاقتصادية في التطور اللغوي، مما يستدعي مزيد اهتمام من قِبل علماء اللغة وعلماء الاقتصاد ورجال السياسة والمخططين اللغويين في البلدان النامية، وبشكلٍ خاص البلدان متعددة اللغة. وقد آن الأوان
* المستشار الاقتصادي بجامعة الإمام محمد بن سعود عضو الجمعية السعودية لعلوم الاتصال |