تلعب أسواق المال دوراً أساسياً في عملية نمو وتطور أي اقتصاد، بل أصبحت هذه الأسواق مصدراً مهماً في الدول النامية وأكثر أهمية في الدول المتقدمة لتحول المدخرات إلى قنوات استثمارية. وقد زادت أهمية الأسواق المالية العربية خلال الأعوام الماضية بسبب تحسن عدد لا بأس به من الاقتصاديات العربية وتحسين معدلات النمو الاقتصادي بها، وأثر ذلك بالتالي على تحسن مستويات الدخل القومي وزيادة معدلات الاستهلاك والادخار.
ورغم هذا التطور الملحوظ إلا أن أسواق المال العربية سيطر عليها خلال الأسابيع الماضية ظاهرة سلبية شديدة الخطورة، وهي تراجع مؤشرات هذه الأسواق، خاصة في منطقة الخليج باستثناء سوق مسقط إلى جانب الأردن ومصر، وسيطر جو من الخوف على المستثمرين، وهذا ما دفع بهم إلى بيع أسهمهم لتقليل حجم الخسائر وسداد الديون التي تراكمت عليهم، حيث إن البائعين كانوا أكثر من المشترين فانهارت الأسعار، وكانت سوق دبي هي الخاسر الأكبر تلتها أسواق الكويت والسعودية وأبوظبي ومصر، ولم تتدخل الحكومات من خلال أجهزتها المالية والاستثمارية إلا مؤخراً لإنقاذ الموقف، فالاتجاه كان يعكس ترك الأسواق تتعامل بحرية مع عوامل العرض والطلب، إلا أن هذا التدخل المتأخر من قبل الحكومات لإدارة الموقف قد أضر بحجم الثروات خاصة تلك التي تدار في أسواق المال والبورصات الخليجية التي تقدر بنحو 2 تريليون دولار، ويتعامل في الأسهم ما لا يقل عن (5) ملايين مستثمر ومستثمرة خليجية، فضلاً عن وجود نحو (750) صندوق مضاربة بالأسهم تدير نحو 500 بليون ريال.
وفي الحقيقة فإن هذا التراجع في مؤشرات هذه الأسواق يرجع إلى مجموعة من الأسباب وهي:
- معاناة معظم الأسواق العربية من تدني مستوى الإفصاح والشفافية والتعامل من الداخل واحتكار المعلومات لفئة محدودة من كبار المستثمرين وعدم التزام معظم الشركات بالمعايير المحاسبية الدولية عند إعداد بياناتها المالية وانخفاض مستوى جودة التقارير والبيانات المالية والتأخير في صدورها وعدم الالتزام بإصدار بيانات دورية لتعكس الأسعار واقع الأداء.
- معاناة الأسواق العربية من محدودية الأدوات الاستثمارية واقتصارها على الأسهم لمعظم الأسواق وبعض أسواق الأسهم والسندات، فتنوع وتعدد الأدوات الاستثمارية يساهم في زيادة الفرص أمام المستثمرين ويساهم في زيادة العمق في هذه الأسواق ويعزز الطلب والعرض على الأوراق والأدوات المالية، إضافة إلى أنه مؤشر على تطور هذه الأسواق وارتفاع مستوى الوعي الاستثماري.
- معاناة أسواق الأسهم العربية من محدودية الوعي الاستثماري الذي عادة ما يؤدي إلى عدم استقرار هذه الأسواق، وتحول عدد كبير من المستثمرين إلى مضاربين، إلى جانب معاناتها من محدودية الاستثمار المؤسسي واعتمادها على الاستثمار الفردي، فالاستثمار المؤسسي يساهم في استقرار الأسواق بصورة عامة باعتبار أن أغلب توجهات استثماراته طويلة الأجل ذات طبيعة غير مضاربة إضافة إلى مساهمته في تعزيز حجم الطلب والعرض في الأسواق.
- معاناة أسواق الأسهم العربية من محدودية الدور الذي يقوم به الوسطاء؛ فتعزيز نشاط أسواق الأسهم وتطويرها يحتاج إلى وجود وساطة مالية ذات كفاءة وقادرة على المنافسة والابتكار.. ووجود مؤسسات وساطة متنوعة في إطار تنافسي يساعد على تحسين مستوى الخدمات المالية، وتطور وتوسع خدمات الوساطة المالية ينبع من واقع تطور الأسواق.
- عدم القدرة على تحليل الأخبار الاقتصادية واستغلال ذلك في تحريك الأسعار، فعلى سبيل المثال قد يعلن عن شركة خبر اقتصادي أو إنتاجي أو مالي مثل قيامها بفتح فرع جديد والاستحواذ على شركة مثيلة فينتج عن ذلك زيادة الطلب على أسهم هذه الشركة ومن ثم زيادة غير مفسرة في أسعار هذه الأسهم.. ونتيجة لأن الزيادة في الأسعار غير مبررة وتعتمد على الشائعات فلا يكاد تمر فترة زمنية بسيطة حتى يحدث انخفاض مفاجئ في سعر هذا السهم.
وإلى جانب قضية الأسباب هناك قضية أخرى أثير حولها جدل كبير وهي قضية تدخل الحكومات لتصحيح هذا الوضع المتأرجح للأسواق، إلا أن هذه القضية اختلفت حولها الآراء بين مؤيد ومعارض.
فالاتجاه المعارض كان أهم ما عبر عنه تقرير منشور لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية جاء فيه أن ما يحدث الآن ما هو إلا حركة تصحيحية تشهدها سوق الأسهم العربية والخليجية، ووصفها بأنها صحية ومطلوبة، ودعا الحكومات العربية إلى عدم الاستجابة للمطالبات المتصاعدة بالتدخل للتأثير في مجريات السوق؛ إذ أن أي تدخل حكومي مباشر للتأثير في الأسعار قد تكون له آثار سلبية سيئة على المدى البعيد، وقد يطيل فترة التصحيح، بل يجب على هذه الحكومات أن تسعى إلى تحرير أسواق الأسهم وتعزيز الشفافية والإفصاح وتفويض مفاهيم المضاربة المسيطرة على البورصات المالية وإيجاد وساطة مالية ذات كفاءة عالية وقادرة على الابتكار والمنافسة والتجاوب السريع مع المتغيرات.
وشدد المركز على أن الواقع الذي يمر به سوق الأسهم الخليجية خاصة والعربية عامة يفرض حاجة ملحة لإفساح المجال أمام آلية السوق لتعمل عملها في شفافية تامة، وهي كفيلة وحدها بأن تعود بهذا السوق إلى رشده، مشيراً إلى أنه رغم أن ذلك سيكون مؤلماً لشريحة كبيرة من المستثمرين خاصة الصغار والهواة منهم إلا أنهم سيتلقون في المقابل درساً مهماً يتأكد للجميع من خلاله أن إغراء الأرباح الكبيرة علامة تحذير وليس علامة تشجيع للمشاركة في سوق لا يقبل المتعاملون فيه أية إشارة إلى إمكانية هبوط الأسهم ويعتبرون الصعود المتواصل في الأسعار أمراً طبيعياً، بل إن البعض يجادل بأن أوضاع هذا السوق استثنائية ولا يمكن إخضاعها لحسابات المنطق الاقتصادي الرشيد، وها هو المنطق نفسه يعود ليفرض آلياته على الجميع. وقال المركز إن هذا الأمر كان متوقعاً بعد أن حققت مؤشرات الأسواق مستويات قياسية متجاوزة المستويات الحقيقية لأسهم الشركات المدرجة بمعدلات غير طبيعية تجاوزت في كثير من الحالات 20 ضعفاً من قيمتها الدفترية، بينما كانت قاعدة المستثمرين والمضاربين تتسع بشكل كبير متجاهلة أبسط الأبجديات الاقتصادية والاستثمارية التي تحكم عملية تقييم الأسهم طمعاً في جني المزيد من الأرباح.
والاتجاه المؤيد كان يعزو أسباب تراجع أسعار الأسهم التي انتشرت كالعدوى في بورصات المنطقة العربية عموماً وبورصات دول الخليج خصوصاً إلى هيمنة الحكومات والمستثمرين الكبار على 90% من إجمالي الأسهم في الأسواق، إضافة إلى ضعف إدارات الأسواق المالية. وينادي هذا الاتجاه بضرورة تدخل الحكومة لتجزئة الأسهم لدعم الأسعار وزيادة الأموال الكبيرة للحيلولة دون تأرجح الأسعار في نطاقات سعرية واسعة. ودعوا الحكومات في المنطقة إلى التدخل لتعديل مسار الأسواق التي وصفوها بأنها تترنح بسبب مسلسل التراجع الأخير وتشكيل صناديق تستخدم في وقت الأزمات مثل تأسيس صندوق يُشكل باستقطاع 10% من الاحتياط القانوني للمصارف وضخها في الأسواق أوقات الأزمات، وكذلك أهمية تفعيل الأنظمة والقوانين المعمول بها داخلياً وخارجياً في الأسواق المالية من دون تأخير.
ورغم الاختلاف حول تدخل الحكومات بين مؤيد ومعارض إلا أن الواقع أثبت أن تدخل الحكومات أثبت جدارته في إرجاع الأمور إلى مسارها الصحيح كما حدث في السعودية ومصر؛ لذلك لا بد من تبني ما دعا إليه الخبراء في منتدى أسواق المال الخليجية بالإمارات من ضرورة تدخل الحكومات لتعديل مسار الأسواق التي وصفوها بأنها تترنح إلى جانب تبني دعوتهم لتشكيل صناديق توضع فيها توزيعات أسهم المنحة والتوزيعات التي يحصلون عليها من أرباح الأسهم لاستخدامها وقت الأزمات.
|