سيرة نبيِّنا محمد، صلَّى الله عليه وسلَّم، المرسل هدى ورحمة للعالمين، سيرة عطرة حافلة بالدُّروس العظيمة الجديرة بالاتِّباع. ومن هذه الدروس الصبر على الأذى والثَّبات على الحق. ولقد عانى، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، مختلف أنواع الأذى، كما عانى من صحابته من عانى أشدَّ أصناف التعذيب. وصبر، صلَّى الله عليه وسلَّم، في سبيل دعوته إلى توحيد اللَّه، كما صبر أولئك الذين عُذِّبوا من صحابته، رضوان الله عليهم، في سبيل تمسُّكهم بإيمانهم باللَّه ربّاً، وبمحمد نبيّاً وبالإسلام ديناً. وقاد، صلَّى الله عليه وسلَّم، صحابته الغرّ الميامين في مسيرة جهاد لم تكن قصيرة ولا سهلة المسالك. وكان من محطَّات تلك المسيرة الجهادية العطرة غزوة العسرة، التي تجلَّت فيها عظمة المؤمنين بتسابقهم إلى بذل أموالهم للإنفاق عليها، إضافة إلى نذر أنفسهم للجهاد فيها. ولم تلن لأولئك المؤمنين قناة، بل ظلّت راية جهادهم مرفوعة حتى تحقَّق لهم ما وعد اللَّه به نبيَّه محمداً، صلَّى الله عليه وسلَّم، بأن ينصره نصراً عزيزاً ويفتح له فتحاً مبيناً. وأنجز اللّه وعده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده. وكان مسك الختام أن حطَّم الرسول الكريم، صلَّى الله عليه وسلَّم، الأصنام التي كانت تُعبَد من دون اللَّه وهو يردِّد قول الله تعالى: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (81) سورة الإسراء.
وفي أيّامنا هذه يتجلَّى أمام الجميع واقع يشبه في بعض جوانبه الواقع الذي كان موجوداً أيام المصطفى، عليه أفضل الصلاة، وأزكى التسليم. فبعض المؤمنين باللَّه ربّاً، وبالنَّبي محمد نبيّاً، وبالإسلام ديناً، يعانون أصنافاً من الظُّلم والاضطهاد على أيدي طغاة العالم ومتغطرسيه في بقاع شتى من أقطار العالم الإسلامي، ولعلَّ أوضح مثال على ذلك ما يُرتكب من جرائم بحقِّ الشعب الفلسطيني على أيدي جلاوزة الصهاينة المدعومين دعماً غير محدود من المتصهينين. لقد مهَّد المتصهينون، الذين ابتليت فلسطين بجعلها تحت انتدابهم، الطريق لعصابات الصهاينة بأن يثبِّتوا أقدامهم في تلك البلاد المباركة، التي أُسري بنبيِّنا محمد، - صلَّى اللَّه عليه وسلَّم، إليها وعرج به منها إلى السماء. وبعد أن ثبَّتت أقدام تلك العصابات في الأرض المباركة راح مجرمو الحرب من الصهاينة يرتكبون المجازر، واحدة بعد أخرى، ويمارسون الإرهاب الفظيع بمختلف أنواعه حتى اضطر كثير من الفلسطينيين، أهل البلاد، إلى النزوح منها تحت سمع وبصر القوى المهيمنة في العالم، التي ساندت أكثريّتها؛ وفي طليعتها الدولة الأمريكية، تلك العصابات المجرمة.وعاش من عاش من الفلسطينيين لاجئين في مخيَّمات من أبرز ملامحها البؤس والقهر، أملاً في عودة إلى الأرض المغتصبة واستعادة للحقوق المستلبة.
ولقد بذل الشعب الفلسطيني من التضحيات العظيمة ما بذل، ولهث من زعمائه - ومن ورائهم بعض القادة العرب - من لهث وراء سراب بقيعة من وعود لُوِّح بها من المتصهينين، الذين لا يفون بوعد، وتعهَّد بتنفيذها من الصهاينة من خُلُقهم النّكث بالعهد. ومضت السنوات تلو السنوات على ما وُعد من وعود، وتُعهِّد بتنفيذه من عهود.
لكن كلّ تنازل من قِبل الزَّعامة الفلسطينية، مؤيَّدة من بعض القادة العرب الذين أقلُّ ما يمكن أن يُقال عنهم: إنّهم منخدعون بسراب يعلم من يتأمَّل حقيقته أنّه لا يغني فتيلا.
وسئم الشعب الفلسطيني المجاهد، الذي تكالبت عليه أحزاب الأعداء من فوقه ومن أسفل منه، اللّهاث خلف ذلك السراب المتمثِّل في مفاوضات بين قوي متغطرس مدعوم بقوّة متجبِّرة وضعيف مادّياً مخذول من قِبل بعض زعماء أُمّته.
وكانت كلُّ جولة من تلك المفاوضات لا تنتهي إلاّ بزيادة المحتل المتغطرس لمطالبه، وتنازل المفاوض الفلسطيني الضعيف عن حقٍّ من حقوقه في حين تتشكَّل على أرض الواقع كلّ يوم صورة من صور تهويد الأرض المحتلَّة، بل إنّه رأى جدار فصل عنصري يُبنى مقتطعاً قسماً كبيراً من الأراضي التي احتلّها الصهاينة عام 1967م بما في ذلك مدينة القدس وضواحيها، ومضيفاً إيّاه إلى الأراضي التي كان قد اغتصبها قبل ذلك. وتأمَّل فيما كان يجري حق التأمُّل، فاتضح له أنّ الصهاينة لا يمكن أن يوثق بأيِّ عهد يعقدونه أو يرعون أيَّ اتفاق يبرمونه. فاتفاق أوسلو - رغم أنّ أكثر مواده كانت في صالحهم - أصبح نتيجة ممارساتهم حبراً على ورق. بل إنّ الزعيم الفلسطيني الذي وقَّعه انتهى به المطاف إلى حصار خانق، ثم وفاةٍ الله أعلم بأسبابها.
ولما أُتيحت للشعب الفلسطيني فرصة انتخاب ممثِّلين له ليكوِّنوا حكومة جديدة اختار زعامة طرحت طرحاً ينسجم مع تطلُّعاته وأمانيه مدركة عقم المفاوضات السابقة مع العدوِّ الصهيوني المتغطرس. وهكذا صوَّتت أكثريَّته لحركة حماس؛ آملة منها تنفيذ ما طرحته من برنامج سياسي ومقدِّرة ما بذلته من تضحيات. ولم يستطع أحد أن يقول عن ذلك الاختيار إنّه كان يتَّسم بما تتَّسم به غالبية الانتخابات الصورية في أقطار عديدة من تزوير وتلفيق.
ولذلك فإنّ من يصف تلك الحكومة المنتخبة انتخاباً حراً نزيها بأيِّ
ِوصف فإنّه يصف به حقيقة أكثريّة الشعب الفلسطيني التي اختارتها ممثَِّلة لهذا الشعب.
على أنّ منافقي المبادئ من الغربيين، وبخاصة الزعامات المتصهينة، أبوا إلاّ إظهار العداوة للشعب الفلسطيني بإظهارهم العداوة لمن اختارهم هذا الشعب ممثِّلين له.
فظلُّوا في طغيانهم يصفون حركة حماس بالإرهاب - والعالم المنصف كله يعلم أنّهم الإرهابيون حقّاً -، ويرفضون الاعتراف بالحكومة التي شكَّلتها، بل إنّهم لا يكتفون بإظهار عداوتهم لها، وإنّما يضغطون بوسائل متنوِّعة على من فقدوا الإرادة من القادة كيلا يعترفوا بها، أو يلتقوا بزعمائها، أو يتعاونوا معها بأيِّ شكل من الأشكال.
واليوم - وقد ورثت الحكومة الفلسطينية الجديدة عبئاً ثقيلاً نتيجة خزانة فارغة من الحكومة السابقة - بتكالب أعداء أُمّتنا على تلك الحكومة الممثِّلة للشعب الفلسطيني، ويرتكبون ضدها جرائم التجويع والمقاطعة. ويتأمَّل المرء فيما يجري فيجد ما يؤلمه ويوجعه من مواقف بعض الدول العربية والإسلامية، التي لم ترع لخيار ذلك الشعب المضطهد الصامد الصابر ذماماً، ولم تحترم له إرادة. بل إنّها وقفت موقفاً سلبياً يتنافى مع الأخلاق التي يُتوقَّع أن يتحلَّى بها من ينتمي إلى الأُمّة العربية أو العالم الإسلامي. وما أشدَّ ظلم ذوي القربى!
إنّ أكثريّة الشعب الفلسطيني اختارت حركة حماس بناءً على البرنامج الذي طرحته. وهذا البرنامج لا يتَّفق مع البرنامج الذي كانت تتّبعه الحكومة الفلسطينية السابقة؛ وهو البرنامج الذي ثبت فشله. فكيف يطالب بعض القادة العرب من الحكومة الفلسطينية الجديدة أن تتنصَّل عن برنامجها الذي اختيرت بناءً عليه، وتتبنَّى برنامجاً فاشلاً لم يقتنع بجدواه أكثر الفلسطينيين؟
بعض الحكومات العربية والإسلامية تعهَّدت مشكورة بإعانة الحكومة الفلسطينية الجديدة لأنّ إعانتها إعانة للشعب الفلسطيني المضطهد المظلوم. ومقدار تلك المعونة - كما يبدو - بعيد عن سدِّ حاجة ذلك الشعب. فهل من الممكن أن يحلم المرء بمصدر آخر يعضِّد الإعانة الحكومية؟
عدد المسلمين في العالم أكثر من المليار. ولا أظن من في قلبه ذرَّة من الإيمان غير متألِّم لما يحدث في فلسطين العزيزة. ولو لم يكن من ذلك العدد إلاّ خمسون مليوناً يستطيع كلُّ واحد منهم أن يدفع عشرين دولاراً في السَّنة لتهيَّأ للفلسطينيين، ممثَّلين بحكومتهم الجديدة، ما يكفي ويساعدهم على الصمود الذي يبدونه دفاعاً عن وطنهم وكرامة أُمّتهم. وإنِّي لأعتقد أنّ دفع عشرين دولاراً في السَّنة غير صعب على تلك الفئة التي لا تمثِّل إلاّ أقلَّ من نصف عشر أفراد الأُمّة الإسلامية. لكن ما السبيل إلى تحقيق هذا الهدف النبيل غير المكلِّف ماليا؟ .. أرجو الله الهادي إلى سواء السبيل أن يوفِّق أُمّتنا إلى تبنَِّي هذه الفكرة لتكون لنا في رسول الله، صلَّى الله عليه وسلّم، أُسوة حسنة.
على أنّ من المؤلم جداً أن يحاول بعض المنتمين إلى الحكومة السابقة إثارة المشاكل أمام الحكومة الفلسطينية الجديدة، ووضع العقبات في طريقها. وكان من المفترض أن يتعاونوا معها لعلَّهم يكفَِّرون بذلك التعاون عن بعض وجود الفساد الإداري المالي الذي مارسوه، والفشل السياسي الذي انتهجوه.
اللَّهم أرِ الجميع الحقَّ حقّاً، وارزقهم اتِّباعه.
|