Sunday 16th April,200612253العددالأحد 18 ,ربيع الاول 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"وَرّاق الجزيرة"

الإمام تركي بن عبدالله.. شخصيته من رسائله الإمام تركي بن عبدالله.. شخصيته من رسائله

*قراءة بقلم: عثمان بن عبدالعزيز العسكر(1)
لا يعدم الناظر فائدة فيما سطّره الأوائل لا سيما إذا كان أولئك الأوائل من علية القوم. وحسبك قيمةً لتلك الفائدة إذا كانت وصلة لحقبة تاريخية نالها من عوادي الدهر ما نالها.
إنّ منطقة نجد كما يقول الشيخ ابن بسّام: (عدمت العناية بها من الدول الإسلامية..)، وقد أذن لها ربها بعد فترة من الزمن بمجدٍ سامق، وحضارة علمية واقتصادية، ونفوذ سياسيّ انتظم جزيرة العرب، وذلك حينما اتحد السيف مع الكتاب بقيام دعوة الإمامين محمّد بن سعود ومحمّد بن عبدالوهاب - رحمهما الله -. ولا نجد في التاريخ الإسلامي مثالاً يحكي هذا التلاحم بين الدعوة والحكم، وإنما نجد أحدهما منفرداً عن الآخر. من أجل ذلك كتب الله لهذه الدعوة الإصلاحية القوة والنفوذ. وبين يدينا وثيقة تاريخية يناهز عمرها قرنين من الزمان إلا قليلاً، مرسلها إمامٌ من أئمة آل سعود، وفي هذه الرسالة شهادة تاريخية لصدق هذا الإمام وحَدَبه على رعيته، وامتثاله شرع الله وانقياده له، وببركة ذلك كتب الله لدولته البقاء، وفي ذريته الحكم إلى يومنا هذا.
***
قراءة النص
(بسم الله الرحمن الرحيم. من تركي (بن) عبدالله إلى الأخ حمد العسكر، سلّمه الله. سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته. وموجب الخط إبلاغك السلام، والسؤال عن حالك. والخط وصل، وصلك الله إلى خير، وما ذكرت صار معلوم، وأشرفنا على شهودك، ولّي (الذي) يطيب لنا إن ما فيه نزاع، ولكن اشتهوا (الدعوى)، فأنتم (فأنت) داعهم (أي: خاصمهم) عند عثمان، واقطع نزاعهم. وسلّم لنا على العيال وإخوانك، وكاتبه محمد يسلّمون (يسلّم) عليك. والسلام. الختم).
***
تاريخ الوثيقة
لم يذكر الكاتب في الوثيقة تاريخاً لها - شأن بعض أهل العصر في ذلك - طلباً للاختصار، أو نسياناً، بيد أني أستطيع أن أحصر الحقبة الزمنية التي كُتبت فيها الوثيقة، وذلك من خلال رصد الأحداث السياسية، أو وَفَيات الأعيان المذكورين فيها، أو غير ذلك من القرائن والدلالات التاريخية. وبعد مقابلة لتلك القرائن لعلّ تاريخ الوثيقة ينحصر بين عامي (1239- 1242هـ)، فمرسل هذه الوثيقة الإمام تركي بن عبدالله، الذي بدأ نفوذه في المجمعة عندما بايعه أهلها في شهر شوال عام 1239هـ، كما ذكر ذلك ابن بشر وغيره. أما قبل ذلك فبعيدٌ أن يأمر أو ينهى في غير سلطانه وحدود ولايته. وتاريخ نهاية الوثيقة من وفاة أول عَلَمٍ من أعلامها، وهو القاضي عثمان بن عبدالجبار، فقد توفي في شعبان من عام 1242هـ، كما ذكره الفاخري وغيره.
***
تحليل الوثيقة
يبدو لقارئ الوثيقة أنها رسالة جوابية لكتابٍ أرسله حمد العسكر إلى الإمام، يُظهر فيه حمد تظلمه من شغب بعض خصومه. تدلّ هذه الوثيقة على أنه قد بسط للإمام شكايته، وعرض عليه شهوده حتى بات الحقّ واضحاً له، وبدا للإمام أنّ المسألة لا تحتاج إلى نزاع. بيد أن خصومه جنحوا للخصومة عند القاضي، فطلب الإمام من حمد مخاصمتهم، وقد استشفّ نتيجة الحكم، ولمن سيكون، على أنّه أراد قطع النزاع ليس إلاّ.
***
أعلام الوثيقة
أولاً: المرسل هو الإمام العادل المجاهد الصادق تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الثانية، الذي جمع الله على يديه البلاد بعد فُرقتها. كان عادلاً مهيباً ذا سطوة محنكاً مقداماً، ومع ذلك فكثير من أخباره لم تدوّن. قال ابن بشر: (ولم أكتب من سيرته وأخباره وحوادث زمنه وآثاره إلا اليسير بل فاتني منها الكثير). (عنوان المجد: 2-24) ومن الملامح البارزة في إمامته:
أ - انتقال الحكم من ذرية عبدالعزيز بن محمد بن سعود (أئمة الدولة السعودية الأولى) إلى ذرية أخيه عبدالله في الدولة السعودية الثانية والثالثة.
ب - اتخاذ الرياض عاصمة لحكمه بدلاً من الدرعية.
قُتل شهيداً - نحسبه كذلك - بعد صلاة الجمعة، وهو خارجٌ من المسجد، آخر يوم من شهر ذي الحجة سنة 1249هـ.
ثانياً: المرسل إليه هو حمد بن سليمان بن إبراهيم بن بدر، وجدّه إبراهيم أحد أعيان المجمعة، له ابنان أحدهما سليمان المذكور، والآخر مقحم، من ذريته كاتب هذه الأسطر، عثمان العسكر. ثم إنّ حمد المذكور من سُراة المجمعة وكبرائها، ومن أهل الثراء والرئاسة فيها، ومن أبنائه إبراهيم، قتله التُرك مع أحد أفراد أسرته، وهو حمد بن ناصر (الملقّب جعوان) بن عقيل العسكر، بعد مجالدة منهما للترك حينما ظهر منهم ظلمٌ وتعدٍّ. ذكر ذلك ابن بشر والفاخري وابن عيسى، في أحداث العاشر من رجب سنة 1237هـ، وهما من عَناهما مقبل الذكير في تاريخه بقوله: (قبضوا (أي: الترك) على اثنين من رؤساء بلدة المجمعة وقتلوهما...).
ولحمد مراسلاتٌ مع أعلام وقته من الأمراء والعلماء، وقد رأيت رسالة للشيخ عبدالله ابن الإمام محمد بن عبدالوهاب جاء ذكر حمد فيها في موضوع خاص. كما كان بينه وبين الإمام تركي علاقة وطيدة، وصحبة وسابقة ودٍّ؛ ممّا جعل الإمام تركي يأنس بزياراته للمجمعة، بل مكث في إحداها شهراً، وتقوّى منها بسلاح وعتاد كما ذكر ابن لعبون في تاريخه. ويُستشف من الوثيقة احتفاء الإمام تركي، وعمق صلته بحمد العسكر، من خلال تكليفه له بنقل السلام إلى أبنائه وإخوانه.
وقد بقيت هذه الصلة الحميمة في أبناء هذا الإمام المبارك وذريته. حدثني العم حسن بن مقحم العسكر المتوفى سنة 1422هـ عن مائة سنة (وهو من أعيان الأسرة، وممن أدرك أهل الرواية وحملة الأخبار، أمثال جدّه لأمه الشيخ عقيل بن إبراهيم العسكر) فقال:
إن الإمام عبدالرحمن الفيصل وابنه سعداً (شقيق الملك عبدالعزيز) زارا المجمعة، وكان الأمير سعد وحاشيته ممن شرفت بضيافته دارة والدي مقحم بن ناصر العسكر، وكنت أحرص على غشيان تلك المجالس، فأرى فيها حميم الصلة ووطيد العلاقة.
ومن عجيب المفارقات أن تتكرر صورة المرجعية الشرعية بين المرسل والمرسَل إليه بين الحفيد الثاني لكلّ منهما (الملك عبدالعزيز، والأمير عبدالله العسكر رحمهما الله) في خطاب بعثه الملك عبدالعزيز إلى الأمير عبدالله، بعد دخول المجمعة في سلطانه، دامحاً فيه من الحقوق ما لا يتعارض مع الشرع. جاء فيه (إلا معاملات الناس فيما بينهم مثل بيع وشراء، وأخذ وعطا (يقضا) فيه الشرع).
ثالثاً: المراد بقوله: (دَاعَهم عند عثمان) يريد الشيخ القاضي عثمان بن عبدالجبار بن حمد بن شبانة. قال عنه ابن بشر: (العالم الفقيه، والشيخ المبجل النبيه، معين الطالبين، وبقية العلماء الزاهدين، وارث العلم كابراً عن كابرٍ، آباؤه وجدوده وأعمامه وإخوانه).
اجتهد في طلب العلم على والده وعلماء بلده، ورحل في تحصيله إلى الدرعية والأحساء والزبير والكويت. وهو من بيت علم وشرف. وكان له صدارة في البلدة. ذكر ابن بشر أنه حينما حاصر الإمام تركي المجمعة خرج إليه الشيخ عثمان، ومعه رجالٌ من رؤساء البلد، فبايعوه وصالحوه. ولِيَ القضاء لكلّ من الأئمة عبدالعزيز وابنه سعود، وتركي بن عبدالله. وأخذ عنه العلم خلقٌ كثيرٌ منهم ابنه العالم الشهير عبدالعزيز قاضي المجمعة في وقته. وقد اطلعت على مجموعةٍ من وثائقه المحررة وإثباتاته الشرعية الدّالة على فقهه وسداد حكمه. توفي الشيخ عثمان في بلدة المجمعة، وهو قائمٌ بعمله في 27-8-1242هـ.
رابعاً: جاء في السطر الأخير من الوثيقة قول الإمام تركي: (وسلّم لنا على العيال وإخوانك). المراد بالعيال: أبناؤه، ومنهم سليمان ومنصور وناصر. وناصر هذا والد الشيخ الورع حمد إمام مسجد الحارّة في المجمعة - وهو قائم إلى الآن، ويُصلّى فيه إلى وقت قريب - ومن أعلامها في وقته علماً وفضلاً، وأما إخوانه، فهم: عبدالله وعثمان ومحمّد.
خامساً: جاء في آخر الوثيقة: (وكاتبه محمّد يسلمون (يسلّم) عليك). محمّد هذا لعله أحد كتّاب الإمام، ذُكر اسمه مجرداً دون أبيه، لأنّه معروفٌ عند من أُرسلت إليه، وربما يكون أحد قرابة الإمام، وفي تحميله السلام لحمد دلالةٌ على وجود علاقة ومعرفة.
***
وقفة مع الوثيقة
القارئ لهذه الوثيقة يظهر له جلياً ورع هذا الإمام الأوّاب، وصدقه مع ربّه. فلم يحمله ظهور الحق له على أن يقسر الخصوم على قوله، بل أمر حمد العسكر أن يخاصم أولئك القوم عند القاضي، وفي هذا بُعد نظر منه، فإذا اختصم الطرفان عند القاضي، وحكم بينهما، صدرا عن حكمه، وكان الحكم ملزماً لهما، قاطعاً للخصومة.
ولئن اتصفت أسرة آل عسكر بكريم أرومة، وعراقة نسب، فإنّ ذلك لم يحمل الأبناء على الاتكاء على موروث الآباء، فكانوا كما قيل:


إنّا وإنْ أحسابُنا كرُمت
لسنا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني، ونفعل مثلما فعلوا

(1) باحث في التاريخ المحلي.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved