* الرياض - عبدالعزيز المعطش:
رغم مغريات المدن وجاذبيتها، حيث البحث عن الحياة الراقية، والمدنية والخدمات المتميزة، والتعليم على مستويات عالية، والمرافق الصحية المتطورة، وفرص العمل الأوسع. رغم كل ذلك تظل القرية تشغل حيزاً في النفس، ومساحة في القلب لا تستطيع المدينة مهما أوتيت من قدرات وامتيازات أن تؤثر عليه أو تمحو هذا الشعور أو تزحزح القرية عن هذه المكانة. صحيح أن مظاهر الحياة ووفرة عناصرها، والحصول على وسائل الكسب والمردود المالي في المدينة تتسع له الأوعية، وتتعدد الفرص وتتباين، لكن كل ذلك على حساب قيم ومفردات ومكاسب غرستها القرية في أهلها وسكنت في دواخلهم وأبت الخروج. فالمدينة تسودها بوردة العلاقات سوى على صعيد الجوار أو المجتمع بشكل عام، ويضعف فيها التواصل في السراء والضراء، وتذوب فيها المعاني القيمة وتتآكل المبادئ الأصيلة، هذا فضلاً عن روح المدينة القاتلة، وروتينها الممل واعتمادها على إفرازات السوق من حيث المأكل والمشرب، وكذلك البيئة التي لا تخلو من التلوث، ولسنا في حاجة للإشارة إلى بعض مظاهر الانفلات الذي يعتري المدن حيث الكل غرباء ولا أحد يخشى قانون العيب الاجتماعي بعكس القرية التي تحيط أبناءها بشيء من القيم والمحاذير التي لا يمكن تجاوزها. يظل الحنين إلى القرية يمثل العودة إلى الجذور، والالتحام مع الأهل، والتفاعل من خلال العادات والتقاليد، والاستمتاع بدفء العلاقات الحميمة، والانصهار في بوتقة التعاون والتكافل، والعيش في بساطة القرية وطيبة أهلها. ومهما حاولت المدينة أن تشكلنا وتمنهجنا على ناموسها وطابعها، وتدعونا للانغماس في واقعها، وتسرق بعضاً من أعمارنا، تظل القرية بكل معطياتها كامنة في الوجدان، خالدة في الخاطر، ويبقى الحنين إليها جزءاً أصيلاً من تكويننا الداخلي وبعضاً من مشاعرنا وأحاسيسنا الصادقة التي لا نستطيع أن نخفيها، أو نتجاهلها، لأن العناصر الاجتماعية والقيمية والنفسية التي رسختها فينا القرية قوية وفاعلة ومحفورة في أعماق أنسجتنا الحية لذا يصعب محوها، ولذا ظلت تتقد وتصر على البقاء مشتعلة، فأصبحت القرية تستحوذ على مساحة رحبة في الخواطر وفي الأفئدة، وتسجل حضورها المتمكن، ونسجل نحن حضورنا معها وإن كنا في قلب المدن وضجيجها وانفعالاتها وعنفوان حركتها الدائبة وليلها الساري، ونظل نحن بأجسادنا نتمدد في جوف المدن، ونتجول في أرصفتها، ولكن قلوبنا وخواطرنا تسري إلى القرى في خلسة من أوقاتنا.
|