Friday 7th April,200612244العددالجمعة 9 ,ربيع الاول 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

الحسد داء اجتماعي الحسد داء اجتماعي
د. محمد بن سعد الشويعر

تنتشر في بعض المجتمعات، أمراض تهتزّ لها الجهات المَرَضِيّة، دفاعاً عن الصحة، ووقاية للمجتمع كما نرى بين وقت وآخر، وترصد لذلك جميع الإمكانات، المعينة على تخطي هذه المشكلة أو حصرها في نطاق ضيّق: مثل إنفلونزا الطير، وحمى الضنك، والملاريا وغيرها كثير.
لكنهم لم يهتموا بالحسد الذي يفتك بالأفراد والجماعات، فهو أول ذنب عُصي الله به على وجه الأرض، عندما امتنع إبليس عن السّجود لآدم، فعصى ربّه وغوى، عندما قال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (12)سورة الأعراف. ثم طلب من ربّه أن يخلِّده في الحياة الدنيا، إلى يوم البعث، ليكمل مشواره في الحسد، ومتابعة أولاد آدم، حتى يفسد عليهم دينهم، وعلاقتهم بخالقهم، إلا عباد الله المخلصين، الذين استثناهم الله سبحانه، فإنه لن يضّرهم ولن يغويهم.
فكانت الفتن وكان التحّاسد فيما بينهم، ونشأ القتل، حيث يعتدي القويّ على الضعيف، بأنواع عديدة من أساليب التسلّط، منها الظاهر كأخذ الأموال، والتكبر والتعالي، ومنها الخفي بالغيبة والنميمة والبهتان، والكذب والافتراء.
وكان الحسد سبباً في أول جريمة قتل على وجه الأرض، عندما قتل هابيل بن آدم، أخاه قابيل، التي ذكر الله قصتهما في سورة المائدة. فبدأ يتسع نطاق الحسد في الأرض، ويغذّيه عدو الله، وعدو آدم وذريّته إبليس الذي ناصبه العداء من ذلك التاريخ وأخذ على نفسه العهد والميثاق، أن يكون لهم بالمرصاد، فيأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وشمالهم، ويزين لهم المغريات، والطرق التي توردهم المهالك.. ولذا كان الخير والشر في ذلك الوقت يتصارعان، حيث تتسع دائرة الشّر كلما ضعف الخير، الذي يغذّيه وينميه الإيمان بالله واتباع شرعه، الذي شرع سبحانه لعباده وهذا ما يجب أن ينتبه له المسلمون، ليستعدوا بالدواء المعتادّ له: لا يصلح آخر الأمة إلا بما صلح أولها، ومن هنا يُدرك المتابع لمسيرة الإنسان مع الخير والشّر، أن الشّر تضيق مسالكه، وتضعف قوّته بضعف دعاته كلّما قوي الخير وازداد أنصاره تمسكاً ودعوة، وبالعكس يكبر الشّر، وتتسع دائرته، ويتغلّب أعوانه فيرسل الله الرسل للتجديد ليستمر الصراع لحكمة أرادها الله سبحانه حتى يميز الخبيث من الطيب.
وبعد أن انتهى دور الرسالات التي ختم الله بها، رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، الذي عرفنا من سيرته ودعوته الشيء الكثير من آثار الحسد، وتعاون الشر ضده، بأساليب مختلفة، منها الظاهر بالتحزّب ضده في الحروب، ومهاجمة المدينة في غزوة الأحزاب التي قال الله فيها: {إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}10- 11)سورة الأحزاب. فبالثبات وقوة الإيمان، أضعف الله القويّ، وهزمه وتفرق جمعهم، وقوى الله الضعيف، ونصره على هذا الجمع الذي جعل سبحانه بأسهم بينهم شديداً، أما الخفي: فهو النفاق والتعاون سراً مع العدوّ.
لكن هل انتهى الحسد، من قلوب البشر؟ لا فإن الحسد الذي ينمي الشّر باقٍ، ويكبر لكن بأسباب خفية مثل النار تحت الرماد، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، ألم يخبر صلى الله عليه وسلم بأمرين مهمين يرفع الحسد فيهما رأسه، وتعلو رايته التي يريد بها قمع الخير، أو إسكات صوته، متى يأخذ الشرّ مكانه مع ضعف الخير، الذي يمثله قوة الإيمان: الأولى قوله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أمن قلة يومئذ؟ قال: لا فأنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوّكم) الحديث. الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: (لقد أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب، ولكن بالحسد والغيبة والتحريش).
فالأولى: لن ترجع مهابة المسلمين، الذين نصرهم الله بالرّعب مسيرة شهر، بالكلام والادعاء والتهويش، ولكن بصدق القلوب، وقوة الإيمان، والصرامة في الحق، كما قال عمر بن الخطاب: أنقبل الدّنيّة في ديننا؟ فإذا صدقوا مع الله ونصروا دينه، صدقهم الله وعده بقوله سبحانه: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (47)سورة الروم.
الثانية: ترك التحاسد فيما بينهم الضارّ، لأن الحسد نوعان: ممنوع ومحرّم، وهو تمنّي زوال النّعمة عن الآخرين، من دون أن ينال الحاسد شيء، والثاني: لا بأس به وهو تمني مثل هذه النعمة، من دون زوالها عن صاحبها، حتى يعمل في الخير مثلما عمل صاحب النعمة، ويسمونه غبطة.
والحسد الممنوع يأتي على هيئة أنواع عديدة، تنشأ عند الحاسد، منها الغيبة والنميمة والبهتان، ومنها الإضرار بالآخرين في أنفسهم وأولادهم وممتلكاتهم خفية بالعين، فالعائن حاسد حقود يتمنى الشر للآخرين وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم علاجاً يحمي منه ومن السّحر، ومن بقية الشرور التي مبعثها الحسد، وذلك بالاستمرار صباحاً ومساء، على التحصّن بآية الكرسي والمعوذات، فهذا علاج وقائي عن الشّر قبل وقوعه.
ويأتي من آفات الحسد تحاسد العلماء فيما بينهم، وتقارعهم بالردود، كما حصل بين ابن حزم وابن الربيب من مناظرات، جاء بعضها في كتاب نفح الطيب، وهذا بابه واسع قديماً وحديثاً، حتى أنه ألّف فيه كتب كاملة، والشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - عندما قام بدعوته، تصدّى له حسداً هم من حوله من طلبة العلم حقداً، وتعاطفاً مع أصحاب البدع، لغلبة الهوى. ويبين ذلك مما جاء في رسائل الشيخ محمد وكتبه التي نشرتها جامعة الإمام.
ونلمس هذا مع كل عالم صادق في علمه ودعوته، في كل مكان، حيث ينبري له من يحاول التخطئة وتخفيف مكانته في مجتمعه وأضرب النموذج بالشيخ عبدالرحمن بن سعدي، الذي وُشِيَ به عدة مرات، وحاول بعضهم تجهيله، لإنقاص مكانته العلمية في النفوس، لكن السحاب كما يقال: لا يضرّه نبح الكلاب، وهذه حالة واحدة أثبتها ابنه محمد في مواقف كانت لأبيه فقال: كان في عنيزة رجل علم، وكان هذا الرجل يعارض أفكار الوالد رحمه الله، وكان ينال من الوالد في بعض المسائل العلمية، ويتكلّم على الوالد في المجالس، ويردّ على أقواله واجتهاداته في مسائل عديدة ولماّ علم الوالد به، أرسل إليه خطابات ورسائل، يخبر فيها، أنه يرغب ويحب الاجتماع معه، حتى يسمع منه وجهة نظره، حيال تلك المسائل التي يخالف فيها الشيخ، ويود التفاهم معه حتى لا يحدث بلبلة وفتنة بالبلد، ويطلب منه أن يترك الكلام، بالمجالس ومع عامّة الناس.
وذكر له بأنه إذا كان مخطئاً فسوف يتراجع عن أقواله، ويتمسّك بالحقّ، وإن كان الحقّ مع الوالد يجب ترك الكلام، وعدم التّعرض للوالد.
فتبين لي فيما بعد: لأن أصدقاء الشيخ يتناقشون بخصوص اعتراض هذا الرجل، وقد طلب بعضهم من الوالد التناظر معه، في مجلس خاصّ دون علم الناس، فاستجاب الشيخ لكن الرجل رفض الاجتماع ثم انتقل لبلد آخر (ص 47).
***
قصة ابني آدم
ذكر السيوطي في تفسيره: الدرّ المنثور قصة ابني آدم بروايات متعددّة، عند مروره بالآيات من 27 في سورة المائدة فقال: أخرج ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن ناس من الصحابة أنه كان لا يولد لآدم مولود، إلا ولد معه جارية، فكان يزوّج غلام هذا البطن، لجارية البطن الآخر، ويزوّج جارية هذا البطن، غلام هذا البطن الآخر، حتى ولد له ابنان يقال لهما: قابيل وهابيل.
وكان قابيل صاحب زرع، وكان هابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكانت له أخت أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال: هي أختي ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحقّ أن أتزوّج بها، فأمره أبوه أن يتزوّج بها هابيل فأبى. وأنهما قرّبا قرباناً إلى الله أيهما أحق بالجارية، وكان آدم قد غاب عنهما إلى مكة، ينظر إليهما.
فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض فأبت. وقال للجبال فأبت، فقال لقابيل، فقال: نعم تذهب وترجع، وتجد أهلك لما يسرّك.
فلمّا انطلق آدم قرّبا قرباناً وكان قابيل يفخر عليه، فقال: أنا أحقّ بها منك، هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصيّ والدي.
فلمّا قرّبا، قرّب هابيل جذعة سمينة، وقرّب قابيل حزمة سنبل، فوجد فيها سنبلة عظيمة، ففركها وأكلها، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل. فغضب وقال: لأقتلنّك حتى لا تنكح أختي، فقال هابيل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ}(28-29)سورة المائدة. يقول: إثم قتلي إلى إثمك، الذي في عنقك. فكان ولد آدم من نسل ذلك الكافر، (الدرر المنثور 3 :54-55)

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved