Tuesday 4th April,200612241العددالثلاثاء 6 ,ربيع الاول 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"مقـالات"

من تلوُّث الأجواء إلى لوثة الأفكار..! 2-2 من تلوُّث الأجواء إلى لوثة الأفكار..! 2-2
د .حسن بن فهد الهويمل

ومؤشّرات الفشل الذريع أنّ المشاهد الفكرية العربية انبهرت بأربعة مفكِّرين ملحدين (نيتشة) الذي أمات الإله، وجعل الإنسان مركز الكون. و(دارون) الذي أرجع الكائنات والأمم كلّها إلى خليّة واحدة، يحكمها قانون (البقاء للأصلح). و(فرويد) الذي ربط النوازع والرغبات بالجنس، موغلاً في حيونة الإنسان. و(ماركس) الذي ألّه المادة، وربط الصراع بها، وحاول فكّ الاشتباك ونزع فتيل الصراع بإلغاء الملكية، ظنّاً منه أنّها مكتسب لا غريزة. والغرب هو الذي تعمَّد إشاعة مفكِّريه ومبدعيه وفنانيه عن قصد، وضنَّ بإشاعة علمائه ومخترعيه وقوانين مكتشفاته وشفرات معلوماته، ليجمع السيطرة من أطرافها، ولهذا يجود بإشاعة الفكر والفن، ويستأثر بالعلم، وليس لشهرة هؤلاء المفكِّرين اليهود ما يماثلها.
وهؤلاء الأربعة هم الذين تولّوا كبر اللوثة والتلوُّث في العصر الحديث، ومن أصولهم ومناهجهم وآلياتهم تفرّق الجنس البشري شيعاً وقبائل، وجاءت المذاهب في سائر وجوه الحياة تستمد طرائقها مما أقرّه أولئك. ومع نفوق هذه المذاهب، ودخولها مزبلة التاريخ، فإنّه لم يدلّنا على موتها إلاّ لدات المفكِّرين من بني جنسهم، وقد نجد من يردِّد: -الماركسية لم تمت، والداروينية لمّا تزل فاعلة، وكم نحن بحاجة إلى (دابة الأرض) لتدلّنا على موت الشواخص من تلك الهياكل الجوف، وإذا قيل: إنّ الكفر ملّة واحدة، فإنّ سائر المذاهب الفكرية مهما أبعدت النجعة، تمد بسبب إلى هذه المذاهب المادية الأربعة، ذلك أنّ الرابط بينها إنكار الدين، وإماتة الإله، وتأليه المادة، ونفي عالم الغيب. وما تتداوله المشاهد الأدبية والفكرية والسياسية لا يخلو من اللوثة والتلوُّث، على حد دخن (الرباء) فالذين لا يأكلونه في بطونهم، لا ينجون من دخنه. وإشكالية المتعاطين مع المستجدات أنّهم لم يؤصلوا لأفكارهم، بحيث يميّزون بين المحظور والمباح، ولم يقفوا على تأصيل الآخر لأفكاره ومذاهبه. وفقد التأصيل مظنّة التيه والتضليل.
والمتابع للمتشبِّثين بالفكر الغربي، يلمس ذلك بكلِّ وضوح، فهم نقلة ملفقون، وقليل منهم من يعي بعض ما يلتقط، وهم مع حضارتهم بين مسقط للنص، أو متأوِّل يلوي عنقه، مستخدماً آليات التفكيك، التي تلغي الدلالة، وتميت المؤلف، وتمكِّن المتلقِّي من فرض دلالته التي توافق هواه - راجع (دليل الناقد) للبازعي والرويلي -. ولقد كان نصيب الإبداع السَّردي من الانحراف الفكري والسقوط الأخلاقي وافراً. وكلّ من تقحم تلك المشاهد وانغمس في أوحالها، دون تأصيل شرعي استهوته براعة العرض، وجذبه إتقان المخادعة، وأصابه ما أصاب غيره ممن يعبدون الله على حرف. ومع أنّ على المفكِّر أن يقرأ الآخر ما أمكنه ذلك، وأن يستمع إليه وهو شهيد، وأن يأخذ بأحسن ما عنده، فإنّ واجبه قبل الدخول في غيابة الفكر المعاصر أن يتضلَّع من تراثه الشرعي، وأن يحصن نفسه، وأن يعرف الفرق بين الثوابت والمتغيّرات، والأفكار والعقائد، والوسائل والغايات، والمباح الممكن وغير الممكن، والممنوع لمصلحة والمحرم لمفسدة. وما التاثت الأهواء وتلوّثت الأجواء إلاّ من متحدِّث في غير فنِّه، وينقض النص بالاجتهاد، ولا يُفرق بين القطعي والاحتمالي، وإذ ألْهت (بني تغلب) قصيدة قالها (عمرو بن كلثوم) فإنّ بني يعرب ألهى من ذات النحيين بقضايا المرأة منذ (قاسم أمين) وحتى الذين اهترأت أشداقهم عبر القنوات، والقول في المذاهب والتيارات بغير علم أضلّ الأفهام وأزلّ الأقدام.
ولعلّنا نضرب مثل السوء بمن قال بعد تخبُّط في التيه: - (نهاية إقدام العقول عقال) ومن قال:- (مشيناها خطى) ومن أبدع: (منعطف الاشتراكية الكبير) ومن كتب (الاعتراف) فيما نضرب المثل الأعلى بشيخ الإسلام (ابن تيمية)، الذي قرأ المذاهب والملل والنحل كلّها، وعرفها أكثر من معرفة أصحابها بها، ولم يُصب بلوثة ولا بتلوُّث، ومردّ ذلك استيعابه للتراث الإسلامي، وفهمه حق الفهم، وإيمانه وتصديقه، واستكماله للعتاد والعدّة قبل منازلة الأفكار والمذاهب، لقد كشف عن أخطائها، وهزم أربابها، وخرج كما دخل، لم يتدنّس بفكر، ولم يتلوّث برأي، ومرق من هذه المذاهب كما يمرق السهم من الرمية، لم يعلق به من وضرها شيء، لقد عقل (الرازي) عقله، وفضح (روجيه جارودي) انحراف الماركسية، وروى (أحمد سليمان) رحلة التيه في قيعان الشيوعية، واعترف (أرتور لوندون) بحياة الرّعب في عالم الحزب الشيوعي، ولو كُشف الغطاء لظهر في كلِّ الأحزاب والطوائف والعرقيّات.
وليست الإشكالية فيمن التاث أو تلوّث، لأنّ ذلك ذنب يصيب الذي ظلم خاصة، وإنّما هي فيمن تبنّى هذه المذاهب، ونافح عنها، ومجَّد، أصحابها، وانبهر بطرائق التناول ومناحي القول عندها، ولم يتورَّع من استخدامها في مواجهة تراثه، وتدنيس مقدسه، والتشكيك في يقينيات دينه الكبرى. وما نقم أحد ممن أصابه الدخن، ثم لم يكن داعية سوء.
لقد كان (النووي) و(ابن حجر) - رحمهما الله - أشعريين، وقلّ أن يعرف أحد ذلك عنهما، لأنّهما لم يكونا دعاة مذهب، وإن أخذا بمقتضاه، وكان (الزمخشري) - عفا الله عنه - معتزليّاً متعصِّباً لاعتزاله، تجلَّى ذلك في (كشَّافه) الذي لا يستغني عنه عالم في التفسير، لمجيئه في غاية الجودة، ولكنه داعية لنحلة ومتعصِّب لملَّه، الأمر الذي حمل طائفة من العلماء السلفيين والأشاعرة على فضح اعتزالياته، وكشف ما يدسّه من قول مخالف لمذهب أهل السنّة والجماعة. ولم يخل عصر من العصور الإسلامية من طوائف وملل ونحل فيها الغلو والتطرُّف، خرجت على مقتضيات الشريعة، وأوغلت في البدعة، ونافحت عنها، ولكن هذا العصر تجاوز الطائفية والتأويل إلى المواجهة والإقصاء، وكان ذلك في ظل إمكانيات الاتصال والإعلام المذهلة.
وإن كان ثمة إشكالية التلويث المتعمّد، فإنّ الذين يخوضون في الفكر المادِّي لا يجدون ما يحمون أنفسهم به، وذلك سر تهافتهم كما الفراش. وتعري سوأة الجهل والتعالم لم تحفزهم على مراجعة النفس، والتزوُّد من معارف حضارتهم، وما يقولونه عن حضارتهم من سخرية وتزهيد ودعوة إلى التخلِّي مؤشِّر جهل بنواقض الإيمان، وتأوّل يميل إلى الاحتمال المرجوح، أو افتراض تأويل لا يحتمّله النص، وما يروِّجونه عن حضارة الغير مؤشِّر انبهار، وما يهرفون به قول معاد، فالسابقون الأوّلون من رفاق (الطهطاوي) حتى يومنا هذا أخذوا بعصم القيم الغربية، ولم يفلحوا إذاً أبدا. والقارئ الملم بالتيارات والمذاهب، يحز في نفسه أن يكون أبناء عشيرته مجال سخرية للمفكِّرين المتمكِّنين، متى استعرضوا ما يتداولونه من كتابات ملفقة لا تفهم الأصول، ولا تتقن القواعد، ولا تعرف المنطلقات، ولا تحيل إلى المرجعيّات، حتى لكأنّهم ممن يهرفون بما لا يعرفون، إنّنا نخالف الأقوياء ولكننا نحترمهم، فأين بعض الكتبة من (محمد أركون) و(محمد الجابري) و(حسن حنفي)، و(برهان غليون) و(فهمي جدعان) وآخرين لا يعلمهم إلاّ المتابعون الرّاصدون.
والفروض الغائبة تتمثّل في معرفة أصول المذاهب ومنطلقاتها، فالملتاثون لا يعرفون ضوابط الأخذ ولا موانع الترك، ولا يقدرون على تثوير الأنساق المتجذّرة، وما هم بخارجين من هيمنة الحضارة المادية حتى يعرفوا مبلغهم من أصولها ومنطلقاتها، فما يتوفرون عليه نثار لا يغني ولا يقني، ومع الضحالة والتسطُّح فإنّهم يتشبّعون، ويتجشؤون من فراغ. وإذا قيل لهم خذوا حذركم أخذتهم صفاقة الجاهل واستكبار العائل، وقالوا لمن حولهم: - من صنع حضارة العصر الغرب أم العرب؟ فإذا قيل الغرب قالوا:- هم الأحق بالاقتداء، وهذا مكمن الخسارة الفادحة، والسؤال المفحم:- هل الإسلام يمنع أن نصنع فوق ما صنعوا؟. ومعتصر المختصر: أن يعرف حملة الأقلام أنّ لكلِّ حضارة سماتها المظْهرة والمضمرة، وأنّها لا تتحقَّق إلاّ من خلالها، وأنّ الذين لا يقدرون على هضم ما يتلقّون من فيوض الآخر يدخلون مرحلة المسخ، وأنّ الذين يغلقون الأبواب والنوافذ يخنقون من بداخل الأسوار، فأيُّ الفريقين أحق بالبقاء؟ إنّها معادلة معقّدة.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved