كثيرون هم أولئك الذين يتخصّصُون في مجال التربية والتعليم ويتشرّفون بأداء رسالته الدينية والوطنية، ويحصلون فيه على أعلى المؤهلات الأكاديمية، وكثيرون هم أولئك الذين وفقهم الله فوصلوا إلى مراتب وظيفية عالية في مسيرة أداء هذه الرسالة العظيمة، ولكن المتميزين منهم هم الذين أصبح لهم دور ريادي في هذه المسيرة التعليمية، وخبرة فريدة في إدارتها، وبصمة واضحة على معطياتها، وخاصة منذ بداية تنظيم التعليم الحكومي في عهد المؤسس الأول لهذا الكيان الكبير جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- لأن طرق التعليم قبل ذلك التنظيم كانت تتمّ عبر حلقات دراسية صباحية ومسائية لطلاب العلم من الرجال شيباً وشباناً في أروقة الحرمين الشريفين، والجوامع الكبيرة على أيدي أصحاب الفضيلة العلماء في العلوم الشرعية واللغة العربية وبعض العلوم النظرية، وللشباب الصغار على أيدي بعض القراء أو (المطاوعة) في الكتاتيب، وكانت طريقة التدريس فيها تعنى بالناحية التعليمية البحتة دون اهتمام بالنواحي التربوية والنفسية رغم ما لها من معطيات كثيرة وأهمية كبيرة في تشجيع الطلاب وتنمية قدراتهم وإزالة العوائق عن مسيرتهم.
ولذا اتجهت القيادة السامية منذ بداية التعليم الحكومي لاختيار عدد من شباب الوطن الذين يتصفون إلى جانب قدراتهم العلمية وسعة اطلاعهم بالحكمة والحزم والتروي، والتعامل الأبوي التربوي مع طلابهم وذلك للإشراف على المعاهد والمدارس التي أنشئت آنذاك في بعض مدن المملكة والتدريس فيها بالتعاون مع من تمت الإستعانة بهم والتعاقد معهم من الإخوة العرب المختصين أكاديمياً وتربوياً في شتى المواد العلمية والنظرية.
وكان فقيدنا الكبير المعلم الشيخ عثمان الصالح -رحمه الله- في مقدمة تلك النخبة وأولئك الرواد الذين تم اختيارهم من قبل ولاة الأمر للتدريس حيث أصبح أول معلم سعودي في أول مدرسة حكومية بمدينة المجمعة، وبعد انتقاله للرياض للإشراف على مدرسة أبناء سمو الأمير عبدالله بن عبدالرحمن -رحمه الله- سنة 1358هـ اختاره (سمو ولي العهد آنذاك) جلالة الملك سعود بن عبدالعزيز -طيب الله ثراه- لإدارة مدرسة أنجال الأسرة المالكة سنة 1360هـ التي أصبح اسمها (معهد الأنجال) ثم تم تغيير الاسم إلى (معهد العاصمة النموذجي) الذي تخرج منه الكثيرون من أصحاب السمو الأمراء وأصحاب المعالي والسعادة كبار المسؤولين الذين تسلم البعض منهم عدداً من المناصب القيادية والأعمال الحكومية والتجارية بكل جدارة وحسن عطاء وبكل إخلاص وصادق انتماء لله ثم لبلادهم الغالية وقيادتها السامية، فكان معهد العاصمة النموذجي في الأعوام التي تولى شيخنا عثمان الصالح خلالها إدارته يعتبر معهداً لإعداد قادة العمل البناء لازدهار هذا الوطن المعطاء.
كان الشيخ الصالح من الذين استطاعوا بتوفيق الله ثم بحكمتهم وحزمهم وبعد نظرهم وعزمهم أن يضعوا بصمة متميزة في مسيرة تعليم الأجيال، وإعدادهم الحق لمعترك الحياة وتعويدهم الاعتماد على الله ثم على أنفسهم، والعمل على تأهيلهم ثقافياً ونفسياً واجتماعياً لخدمة دينهم ونفع مجتمعهم وبناء وطنهم مما جعل صفته (مربياً فاضلاً) محفورة في ذاكرة أجيال هذا الوطن الذين عاصروه مدرساً ثم مديراً ثم موجهاً مشاركاً بعد تقاعده برؤيته الثاقبة وقلمه الرصين في معالجة الكثير من المشاكل الاجتماعية الضارة، ودعم التوجهات التربوية النافعة عبر مقالاته الصحفية ومشاركاته الإعلامية، واثنينيته الأسبوعية التي كانت في حياته -رحمه الله- وستبقى بمتابعة أنجاله -حفظهم الله - من أرقى الصالونات الثقافية والاجتماعية في المملكة بما تميزت به من رزانة المشاركين فيها وعلوِّ هممهم ومكانتهم العلمّية والعمليّة، بل إن هذا الشيخ الجليل والمربي القدير يعتبر بكل جدارة (شيخ المربين) بين منسوبي التربية والتعليم في المملكة رغم أنه لم يكن خرّيج جامعة أو معهد متخصص حين بداية عمله مدرساً، ولم يدعم مسيرته التعليمية أو العملية بدورات تدريبية ولا بالحصول على دبلومات تربوية أو إدارية، ولم يصل في حياته الوظيفية إلى مرتبة وزير أو وكيل وزارة في مجال التعليم، لكن دراسته لعلوم القرآن والسنة وعلوم اللغة العربية وآدابها على أيدي علماء أجلاء أمثال الشيخ عبدالله العنقري والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ عبدالعزيز الصالح - رحمهم الله - وحرص معلمه وشقيقه الأستاذ الأديب صالح الناصر الصالح على ارتواء أخيه (عثمان) من معين العلوم والمعرفة وأصول التهذيب والتربية التي أتقنها وكسبها (الأخ الكبير)- رحمه الله- من دراسته على يدي علماء ومفكرين درس عليهم أثناء تنقله في طلب العلم والاستزادة من مصادر المعرفة في العراق والكويت والبحرين ومواكبة الجديد والمفيد من الدراسات العصرية في اللغة والأدب والتربية.
ولأن الشيخ عثمان كان شغوفاً أيضاً رغم مشاغله بالقراءة وسعة الاطلاع (قدر استطاعته) على ما يصل إليه من مؤلفات وإبداعات أدبية وفكرية وتربوية معاصرة، كل ذلك أكسبه بعد توفيق الله قدرات علمية وثروة معرفية، وجعل منه صاحب فكر متزن وشخصية وقورة وإنسانية حقة أهلته أن يصبح مسؤولاً عن إدارة واحدة من أهم المؤسسات التعليمية الوطنية اعتنت بنموذج من الثروة الحقيقية لبلادنا الغالية وهم نخبة من الشباب أنجال ولاة الأمر وأبناء الأعيان وكبار المسؤولين.
ورغم ضخامة هذه المسؤولية وأهميتها المستقبلية وما يكتنف قنوات ممارستها من مهابة وحساسية إلا أنه استطاع بعناية الله أن يقوم بها على الوجه الأفضل دون مجاملة أو جرح لمشاعر أي طالب أو وجل وإحراج مع ولي أمر، بل أصبح بما آتاه الله من أبوة تربوية وحزم مرن وعشق صادق للعمل قدوة إدارية إليها بالبنان ويحتذى بها في أداء هذه الرسالة.
ومما لا شك فيه أن من بين معاصريه أثناء عمله وبعد تقاعده من المعلمين ومديري المدراس خاصة الثانوية أو المجمعات التعليمية من كانوا في مثل قامته إخلاصاً وحسن عطاء، ومن كان لهم -رحم الله الأموات منهم وحفظ الأحياء- بصمات تنظيمية وإدارية وتربوية جعلت من مدارسهم مدارس رائدة بنظامها وسمعتها وعطائها التعليمي، إلا أن الخصوصية التي كانت لمعهد العاصمة النموذجي بكونه أول مجمع تعليمي حكومي يضم مراحل التعليم العام، وتميزه بالثقة السامية التي حظي بها ومنحها ولاة الأمر لإدارته وتحميلها مسؤولية التربية والتعليم والتثقيف لأبنائهم الذين كانوا بين طلبته، وإقبال كبار المسؤولين والأعيان على إلحاق أبنائهم به، وما واكب ذلك من جسامة المسؤولية وحساسية أداء الرسالة التربوية، وأهمية الارتقاء بطرق التدريس، والدقة في اختيار المدرسين، كل ذلك جعل للمعهد مكانة الصدارة بين بقية المعاهد والمدارس الأخرى، وجعلت من خبرة إدارته العامة (آنذاك) منهلاً لكل مدير يسعى للارتقاء بمدرسته إلى المستوى الأرقى، ولكل معلم يحرص على زرع الثقة والمحبة والاحترام له في نفوس طلابه والتعامل معهم بمحبة وهيبة ووقار.
لقد كان الشيخ عثمان -تغمده الله برحمته- يحث زملاءه المساعدين والمعلمين في المعهد للاستفادة دائماً من البحوث والدراسات الجديدة والخبرات العملية المفيدة لتطوير رسالة المعهد وتعميق محبة الطلاب لبيئتهم المدرسية وواجباتهم المدرسية وزيادة ثقة أولياء الأمور بهذه المؤسسة النموذجية التي اختاروها لتعليم وإعداد أبنائهم لمعترك الحياة وتحمل مسؤولياتها، فكان بذلك يجسد مقولة: (إن الإدارة المدرسية قيادة تربوية).. بل إنه بعد تقاعده لم يبخل -جزاه الله خيراً- بإيصال ما لديه من خبرة إلى من يسعدون بلقائه من حاملي أمانة هذه الرسالة وبأسلوب غاية في الذوق والمودة. وقد كنت أحد الذين نهلوا من خبرته المتميزة، واستفادوا من توجيهاته المخلصة خلال تشرفي بالعمل مديراً لمدارس الرياض للبنين حيث كانت هذه المدارس الأقرب إلى معهد العاصمة موقعاً، ورسالة، ومسؤولية، وخصوصية، فقد تفضل بزيارة المدارس عند بداية عملي فيها عام 1397هـ واستفدت وزملائي من كنوز معرفته وخبرته رغم أنه كان يتحدث عنها بأسلوب غير مباشر وبكل لباقة وتواضع.
لقد استفدت شخصياً من المعلم (الصالح) أموراً اعتبرتها ثوابت أساسية في الإدارة المدرسية والعلاقات التربوية ومنها (على سبيل المثال):
* أن يتعامل المدير والمعلِّم بالعدل والمساواة بين الطلاب مع الحرص بأن يكون هذا التعامل مبنياً على أنهم طلاب علم ومعرفة دون تأثر بالمكانة الاجتماعية لبعضهم أو المكانة الرسمية لأولياء أمورهم.
* أن يتحلى المدير والمعلم بروح رسالته التربوية في كل أوان ومكان وأن يحرص كل منهما على النواحي الإنسانية في معالجة المشاكل الطلابية على ضوء النصوص النظامية.
* أن يحرص المدير على الاتزان والتوازن في تعامله مع زملائه المدرسين ومع طلابه والعاملين في مدرسته، وفي علاقاته مع أولياء أمور الطلبة بكل عزة نفس واحترام متبادل.
* أن الفخر والسعادة الحقيقية للمدير أو المعلم هو شعوره باحترام وهيبة طلابه له لأنهم يحبونه ويوقرونه وليس لأنهم يخافونه ويرهبونه.
إنني أعتقد جازماً أن في خبرة فقيدنا الغالي -رحمه الله - الكثير من درر الفوائد العلمية والاجتماعية والدروس التربوية وأتمنى من الله أن يكون أستاذنا الصالح قد حقق أمنية تلميذه المحب له صاحب السمو الملكي أمير الشباب الفذ الوفي فيصل بن فهد بن عبدالعزيز -تغمده الله برحمته- فكتب مذكراته العلمية والعملية حتى تستفيد الأجيال الحاضرة والقادمة الحاملة لأمانة التعليم والتربية من تلك الخبرة في التدريس والإدارة التي تحمل أعباءها (شيخ المربين عثمان الصالح) رغم صعوبة مسؤوليتها وثقل أهميتها جزاه الله عن الجميع بخير الجزاء، وتغمده عز وجل برحمته وأسكنه فسيح جنته وبارك له في مآثره وذريته.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}
* المستشار والمشرف العام على مكتب وزير التعليم العالي(سابقاً) |