Tuesday 21st March,200612227العددالثلاثاء 21 ,صفر 1427

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"الثقافية"

حدثني شيخي أبو محمد قال حدثني شيخي أبو محمد قال
د.ابراهيم عبدالرحمن المطوع(*)

أشكر لمركز صالح بن صالح الثقافي بعنيزة وفاءهم مع شيخي، وشيخ الشعراء في عنيزة الذي سأقص عليكم شيئاً من أخباره، فقد كانت لي معه جلسات، وكنت أطلب الأدب والعلم في مجلسه، وحين جئته قبل سنوات مضت لأخبره بمشروعي في أطروحتي للدكتوراه (عن الشعر في القصيم) هشّ وبشّ، وفتح لي قلبه وعقله وبيته، وخصني ربما دون غيري بنسخة من أعماله الشعرية في مسوداتها، وهو شرف أفتخر به، وظل يسأل عني، ويتابع مسيرتي البحثية مما كان له الأثر على تحمل مصاعب البحث والدراسة، وخصّني حفظه الله لأغراض البحث بإجابات غير مسبوقة، لم تظهر من قبل، مواقفه وآراؤه حول جملة من مسائل وقضايا أدبية مختلفة؟ ذلكم هو شيخي وشيخ الشعراء المعاصرين في عنيزة: الأديب المربي أبو محمد إبراهيم بن محمد بن عبدالرحمن الدامغ العنيزي مولداً ونشأة، متعه الله بالصحة والعافية ونفعنا بعلمه وأدبه.
فأقول وبالله التوفيق، وأستمد منه العون والتسديد: طرقت باب شيخي ذات يوم ولم أكد أطرق الطرقة الثانية حتى فتح لي الباب، وتأكدت بأنه ينتظرني خلف الباب، فرحب بي، وأجلسني منه مجلساً عزيزاً، مكرراً الترحيب بي بين الفينة والأخرى، وقام وأحضر بنفسه وبكل وقار وإجلال القهوة والشاي و(القدوع)، غير معتمد في إحضارها وصبها على ولد أو خادم، فمنحتني بساطته تلك وتواضعه الجرأة على السؤال، ومنحني مكانة حتى غدوت كأنني أنا الأستاذ وهو التلميذ، فكان يعطيني الفرصة للكلام والثرثرة إذا أحس مني رغبة في ذلك، ويستمع لي بإجلاله ووقاره، ولا يقاطعني، فوجدتها فرصة أن أسأل شيخي أسئلة كنت متردداً منذ زمن بعيد في طرحها عليه، فأخذت أسأله في بعض شؤون الأدب والنقد، وموقفه منها.
قلتُ له: لقد قرأتُ أمدّ الله في عمرك ديوانيك المطبوعين (الشرارة) و(الظِلالَ) فلم أر لك شعراً تفعيليا أو حراً، كما يسميه أهل العصر، فهل كنتَ غفر الله لك متهيب صعود سُلّمه؟
فسكت شيخي وكأنني نكأتُ جرحاً غائراً في ذاكرته، وتمنّيتُ لو أنني لم أسأله هذا السؤال، فردّ عليّ قائلاً: لقد سألتُ يا بنيّ هذا السؤال، واتهمني أستاذٌ جامعيٌ بعجزي عن هذا اللون، حين كنتُ ألقي قصائدي في أمسية شعرية دعتني إليها جامعته، فقلتُ لذلك الأستاذ الجامعي: أخرج ورقة وقلماً وسأُملي عليك ارتجالاً ما تظنني عاجزاً عنه، يقول شيخي: أخذتُ أملي عليه أسطراً من قصيدتي (خلف الشعار) التي نظمتُها قبل نحوٍ من أربعين حولاً، فلما بلغتُ السطر الرابع، ألقى ذلك الأستاذ بقلمه وورقته، وخرج من القاعة مغاضباً، فتنهّد شيخي وأخذ نَفَساً عميقاً، وعقّب قائلاً: شعري يا بنيّ يتسم بالوزن الخليلي الملتزم، وليست لي محاولات غير ذلك إلا النزر اليسير، مما يُسمّى خطأ بالشعر الحر، أو المنثور، أو شعر التفعيلة، الذي إذا اتسم بالجودة نستطيع أن نسميه ب(النثر الفني) فهو أبعد ما يكون عن الشعر لفقدانه العصب الرئيسي، الذي هو التفنن الموسيقي، والشكل والمضمون الهادف الذي لا يوجد في غير الشعر العربي الملتزم لنظام (الخليل)، ومن بعده في العصور الذهبية للشعر العربي المتجدد في الإطار والفكرة، دون الإسفاف، والإسقاط الذي يلجأ إليه غالبية المحدثين، الذين لايعرفون المراوحة بين التفعيلات، بل ربما يقفون، أما النثر العادي حتى غير الفني على أنه شعر، فالنثر نثر مهما تألق أصحابه فيه، وذهبوا به مذهب النثر الفني.
- 2 -
وبعد أن رأيتُ شيخي غير متبرم ولا متضجر من فضولي وأسئلتي، قلتُ في نفسي لماذا لا أسأله عن مسألة أعلم أنه متألم منها، وسؤال طالما ترددت في طرحه عليه، فقلتُ لشيخي: تعرّضتَ رحمك الله للكثير من سهام قبيلة (بني ناقد)، خاصة بعد صدور ديوانك الأول (الشرارة)، وكأن القوم فرحوا به لا احتفالاً وترحيباً، وإنما نقداً وتجريحاً، وما علم القوم أنك لم تكن أنت بنفسك راضياً عن صورة ديوانك (الشرارة) الذي شوهته الأغلاط، وطمست معالمه، حتى قلت ذات مرة: تمنيت أن أمتطي بساط الريح حاملاً جذوة من النار لأحرق بها كل أثر لذلك الديوان، وقد رأيتك يا شيخي تتقبل النقد حتى من تلاميذك في مجلسك، فهلا قلت لي قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك في شأنهم، فاعتدل شيخي في جلسته بعد أن كان متكئاً فقال: (غالبية النقاد وللأسف الشديد (مجرّحون)، لا يكادون يبرزون الحقيقة كما هي، ولا ينصفون صاحب الأثر من أثره خاصة إذا لم يوافق هوى في نفوسهم، ولا يهمهم في ذلك ما للحقيقة من شأن يتبصرون من خلاله ملامح النقد النزيه الهادف، والنقاد الذين هذا شأنهم لا أقيم لهم أي وزن، ولا أعتبرهم أصحاب بصيرة، ولا ذوي فكر، فمثلهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع ولا يرى، أما غير هؤلاء، وهم قليلون فإنني أرحب بهم وأعتز، لما يتصفون به من بصيرة ثاقبة، ووعي مدرك، وثقافة متمكنة، ونزاهة متألقة تجعل كل قارئ ومتلق يحفل بما تدبجه أقلامهم من رائع النقد الهادف، وكريم الرأي الصائب الذي لا تمجه الأبصار، ولا الأسماع، بل تحتفي به وتعتز، على العكس من تلك الآراء الساقطة الهزيلة...).
-3-
ويبدو أن سماحة شيخي وتواضعه دفعت التلميذ لأن يطرح عليه سؤالاً استفزازياً، ويقول له: قرأت دواوينك الشعرية ووجدتها كلها نُظمت بلغة عربية فصيحة، ولم نر لك ديواناً ولو صغيراً كما صنع بعض زملائك عامياً؟ فهل لك موقف خاص منه، ولماذا إذاً احتفيت بديوان (مظلوم) للشاعر العامي علي عبدالرحمن أبوماجد، وكتبت مقدمة له؟
فقال: إنني لم أنكر ميلي وتذوقي للشعر العامي، وقد نظمتُ شعراً عامياً لكنه ليس بالكثير، لكنني بصفة عامة لا أرغب في السلاح الذي أشهره في وجه لغتنا الأم، فالشعر العامي إنما هو سلاح قاتل للغة القرآن، ولسان العرب، كما أنه يعتبر لغة الخاصة، لا لغة العامة، فالخليجي لايفهم شعراء الشام ومصر وغيرهما، كما أن الشعر العامي الخليجي لايفهمه أحد من هؤلاء، بل ربما لا يفهم الحجازي شعر النجدي العامي، الذي يسميه البعض نبطياً، وهي تسمية خاطئة، فالنبطي ما كان صادراً من الأنباط بلهجاتهم المختلطة.
-4-
وتمادى التلميذ في استعراض ثقافته أمام شيخه، وأخذ يردد كلاماً، ربما أن شيخه سمعه قبل أن يولد التلميذ، فقال: ألم تعلم يا شيخي أن عملية الإبداع عملية معقدة، ولكنها ليست أمراً غيبياً، ولابد للمبدع أن يفهم كيفية توظيف موهبته وتسخيرها لتكون أداة فاعلة، وليكون إبداعه خالداً، فماذا يعني لك شعرك يا شيخي؟ ما دوره، وما رسالته؟ فقال الشيخ: لقد أوضحتُ ذلك في مقدمة ديوان (الشرارة) فالشعر شمعة وزهرة، والوحي نور وعبير، والإحساس المرهف الدقيق إشراق وجمال، ومن معين هذه الأمواج الإكسيرية ينبع الأثر المأثور، والقول الفصل، والحكمة الخالدة، فليس الشعر ما كان نظماً محنطاً لا أثر للحياة فيه، بل هو في نظري ما أطرب الأذن المرهفة المتذوقة، وأخرس الألسن النافذة، وجرح المآقي الرافدة، وأدمى القلوب الوالهة، وبسط الأسارير، وهذب النفوس، وجمع الكلمة، ووحد القوى، وألهب المشاعر، وعلى هذا تُنصب الموازين، وتنشر الأحكام الهادفة البناءة.
ثم مضى الشيخ يقول: الشعر عندي سلاح معنوي، لا يقل أثره عن السلاح المادي، فمن أجل حمل السلاح المادي وحدوث أثره، لابد من سلاح معنوي وهو الشعر يقوي النفوس ويبعث الحماسة فيها، فقد قيل لي مرة: لماذا تطنطن بشعرك؟ أحمل سلاحك في المعركة وحارب، قلتُ له: وإذا كان هذا هو سلاحي الذي يهز المشاعر ويلهب القلوب، وكتبتُ عند ذاك قصيدتي (سلاحي لساني).
ختاماً، أشكر لمركز ابن صالح الثقافي وهو المركز الذي أسس على الوفاء لشيخ التعليم الحديث في عنيزة وفاءهم مع شيخ الشعراء المعاصرين في عنيزة، وهو أقل ما يقدم له بعد مسيرة شعرية مباركة امتدت قرابة خمسين عاماً، توجت بمجموعة (الأسرار)، وهي تمثل المجموعة الشعرية الأولى، ليقيني بأن لدى شاعرنا أمثالها، ينتظر متابعو مسيرته الشعرية ومحبوه وتلاميذه خروجها، مع غيرها من مؤلفاته المخطوطة، بارك الله في عمره وعمله، وأسبغ عليه رداء الصحة والعافية، ورزقه الله سعادة الدارين.

(*) جامعة القصيم - قسم اللغة العربية

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved