* تحقيق - محمد بن سليم اللحام*
شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تعد من مقومات الأمة ومن أركانها التي تسود بها وما من مجتمع تركها إلا كان عاقبة أمره خسراً.وإن هذه الشعيرة جاء تطبيقها من منطلقات شرعية ولم يترك للناس فيه الحبل على الغارب كل يأمر كيف يشاء وقت ما يشاء بل إن هناك منهجا قويما لهذه الشعيرة استقاه المسلمون الأولون من نبع الرسالة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونحن بدورنا نأخذها منهم ونستشف منهجم وصورهم.
وحول هذا الموضوع استضفنا في هذا التحقيق بعض أهل الخبرة من الميدان ليحدثونا عن هذا المنهج وهذه الصور
*******
وجوب الأمر والنهي
في البداية بين فضيلة الشيخ محمد بن سعيد الصافي رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في محافظة رأس تنورة بأن الأمة أجمعت على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال: وهذه الفرضية لا تجد أحداً من العلماء رخص وتساهل فيها أو بعدم وجوبها حيث قال ابن حزم رحمه الله تعالى (واتفقت الأمة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منهم) قال النووي رحمه الله تعالى (قد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة وهو أيضاً من النصيحة التي هي الدين). وقال الإمام الجويني رحمه الله تعالى: إن المسلمين قد أجمعوا على التواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوبيخ تاركه مع الاقتدار عليه)، ولهذا قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: (كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة).
وأضاف: لقد بين سبحانه وتعالى أن هذه الأمة خير الأمم للناس فهم أنفعهم لهم وأعظمهم إحسانا إليهم لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر حيث أمروا كل أحد بالمعروف ونهوا كل واحد عن المنكر فمنهج السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (هو الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا ظهر فعله) كلٌ حسب قدرته؛ ولهذا قيل ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر.وقد لطف الله عز وجل بهذه الأمة أن قيض لها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من يقوم برد الناس إلى صراطه المستقيم، وأردف فضيلته قائلاً: والمسلم لا يقف من شعيرة الأمر بالمعروف موقفاً سلبياً لابد أن يتفاعل مع مجتمعة لدرء الخطر عنه فعن أبي بكر رضي الله عنه قال: (يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية - يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم - وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقاب منه). والحاصل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعين على ترابط المجتمع في ظل المسؤولية التي يتحملها كل فرد فيه كما أنه يعين على التخفيف من حدة المظالم والانتهاكات الصارخة لحقوق الله وكذلك الإنسان وما ظهر نتيجة التطورات الحضارية المعاصرة مما يتعلق بحياة الناس وسلوكهم وأخلاقهم ومعاملاتهم.
وعن المنهج الذي اتبعه السلف في إحياء هذه الشعيرة بين الصافي أنه يستنير في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفس محمد بيده لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطراً أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم)، وقال: ذاك هو المنهج الذي سار عليه السلف الصلح رضوان الله عليهم أجمعين لا تأخذهم في الله لومة لائم قاموا بهذا الأمر العظيم خير قيام صدقاً وعلماً وعملاً قولاً وفعلاً أمراً ونهياً أخلصوا النية وأصلحوا الطوية.
مواقف الصحابة
أما مواقف السلف رحمهم الله في أمرهم ونهيهم فينقلنا فضيلة الشيخ الصافي لصور عدة من إنكاره صلى الله عليه وسلم ومنها إنكاره على بائع الطعام حينما أدخل يده في صبرة الطعام فنالت بللا فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: (هلا جعلته في أعلا الطعام حتى يراه الناس.. من غشنا فليس منا).كما ساق الصافي نماذج من إنكار الصحابة رضي الله عنهم وابتدأ بإنكار الصديق على كفار قريش حين تجمع عدد من أعيان قريش في الحرم حول رسول الله صلى عليه وسلم وتشبثوا به بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقيل له أدرك صاحبك فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس مجتمعون عليه فقال: (ويلكم.. أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم) فكفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبلوا على أبي بكر الصديق يضربونه. فهذه صورة من إنكار السلف الصالح على المشركين علاوة على صورة أخرى تجلت في إنكاره على المرتدين وقتالهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
أما فضيلة الشيخ عوض بن عبدالله القرني رئيس هيئة محافظة بلقرن فينقلنا إلى مواقف أخرى قائلاً: (إذا نظرنا إلى المواقف العظيمة للسلف الصالح في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر رأينا العجب العجاب؛ فكم من كافر ومشرك ومكابر يريد العناد ويغمط الحق فإذا قابل من يدله على طريق الخير والصلاح ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر عاد عن غيه إلى رشده من الطريق الملتوية إلى الطريق الحق. وبدأ بأول موقف عظيم للمربي صلى الله عليه وسلم عندما أتاه اليهودي وكان سائراً في الطريق وكان بصحبة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فأتى اليهودي وأمسك بتلابيب الرسول صلى الله عليه وسلم ثم شده وقال: أنتم يا آل عبدالمطلب قوم مطل (أي لا توفون الدين) وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد استدان من هذا اليهودي أدرع وبقي من وقت حلول الدين ثلاث أشهر إلا أن اليهودي كان يريد أن يستفز الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بمعاملته بغلظة وذكره لجده وأسرته بأنهم لا يوفون الدين، فلما رأى عمر رضي الله عنه تصرف اليهودي بمده يده على المصطفى صلى الله عليه وسلم قبضه عمر رضي الله عنه قبضة شديدة، فقال له الرحمة المهداه: كان الأولى بك يا عمر أن تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن التقاضي، ثم انصرف اليهودي إلى بيته وعاد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيته فأخذ قيمة الأدرع وأخذ عشرين صاعاً من شعير فأعطاها عمر وقال: اذهب بها إلى اليهودي، فقال عمر: وما هذه الأصواع يارسول الله؟ قال: هذا له بدل ترويعك إياه يا عمر. فذهب عمر وطرق الباب على اليهودي فخرج، فقال عمر له هاك قيمة الأدرع وأعطاه العشرين صاعا. فقال اليهودي: وما هذه الأصواع يا عمر؟ قال: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم هذه بدل ترويعي إياك. فقال اليهودي على الفور: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله؛ فدخل في الإسلام بهذه المعاملة الطيبة، وكان هذا الموقف درساً عظيماً للصحابي الجليل عمر بن الخطاب ولمن بعده من هذه الأمة حتى تقوم الساعة في التعامل مع الناس.
الحكمة من اللعن
كما أن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأمور التي أكد عليها الشارع وفق الصور الشرعية فكذلك إهمال القيام بهذه الشعيرة له عواقب وخيمة. الشيخ فرحان بن خليف العنزي مساعد رئيس هيئة محافظة الجبيل للفترة المسائية ينقلنا في حديثه لاستقراء الحكمة المأخوذة من عقاب الله لبني إسرائيل لتفريطهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: إن الحكمة من هذا اللعن والذم لبني إسرائيل لكي نحذر من التهاون والتساهل في هذا الواجب العظيم مؤكداً أن سبب لعن بني إسرائيل هو عصيانهم واعتداؤهم وعدم تناهيهم عن المنكر فيما بينهم، ونستفيد أيضاً أن هذه الأمة متى تخلقت بأخلاق كفار بني إسرائيل السابقة استحقت ما استحقوا من الذم واللعن لأنه لا صلة بين العباد وبين ربهم إلا صلة العبادة والطاعة فمن استقام على طاعة ربه وحده وامتثل أوامره واجتنب نواهيه استحق من الله الكرامة فضلاً منه وإحساناً وفاز بالثناء الحسن والعاقبة الحميدة، ومن ضل عن سبيله استحق الذم واللعن وباء بالخيبة والخسارة.
كما نستفيد أيضاً أن ترك إنكار المنكر مع القدرة عليه يوجب غضب الله ومقته وعقوبته ومن ذلك عدم رفع الأعمال وعدم استجابة الدعاء في حديث ابن عباس (وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا لم ترفع أعمالهم ولم يسمع دعاؤهم) ويترتب على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خطر عظيم وشر مستطير على الفرد والمجتمع ومن ذلك تعذيب الأمة بأنواع العقوبات من الهلاك والقحط وقلة البركة والحروب والفيضانات والكوارث والزلازل والبراكين، وقد يصل العذاب إلى الخسف والمسخ وغير ذلك من الأمور التي لم تخطر على البال واسوداد القلوب وضرب القلوب بعضها ببعض وتنكيسها في الحديث (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه).
وقال فضيلته: ولك أن تتصور حال جسم بدون مناعة فشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي للأمة بمثابة المناعة للجسم، وهي الحصن الحصين وصمام الأمان وسفينة النجاة وكل معنى سامٍ هي جديرة به لأنها منهج رباني وهل بعد منهج رضيه الله لعباده منهج؟!.
وخلص فضيلته من قصة عقاب الله لبني إسرائيل بفوائد كثيرة منها أن بني إسرائيل خالفوا أمر الله بتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستحقوا بذلك العقوبة وهي اللعن والذم ومن ذلك أن الله جعلهم عبرة لغيرهم وكذلك كل من خالف أمره جعله عبرة لمن يعتبر ومن الفوائد أيضاً وجوب التناصح بين أفراد الأمة، وأن ترك هذه الشعيرة يوجب العقوبة الإلهية، ومن الفوائد أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الله فرض الدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الأمم السابقة ومن الفوائد أيضاً أنها من فرض الكفاية إذا تركتها الأمة عاقبها الله جل وعلا بعقوبة جماعية عامة، وأن العقاب يشمل الصالح والطالح، وكل يبعث على نيته، ومن الفوائد أيضاً أن الإنكار واجب على الجميع وإن تركوه كلهم أثموا.
ما حلنا؟!
وهذا بحد ذاته يقودنا إلى نقطة جوهرية وهي ما الحال الذي نحن عليه وكيف نعالج الواقع الذي نحياه؟
إن ذلك يكون بشكل بسيط من خلال إحياء هذه الشعيرة من جديد على المستوى الفردي. وعن آلية إحياء هذه الشعيرة في قلوب المسلمين وإيجاد دافع ذاتي لإقامة هذه الشريعة وفق الضوابط تحدث لنا الشيخ ناصر الزهراني رئيس هيئة محافظة المندق فقال: إن الأمة الإسلامية متى ما غرست في نفوس أفرادها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمكنت بوعد الله لها من قيادة سفينتها بأمان دون تخبط في أمواج الانحراف أو غرق في مستنقع الرذيلة فما أن يقع أي منكر إلا وتجد المسلمين قد هبوا لإنكاره قبل أن يزيد ويسري إلى الآخرين، فإذا كان هذا الحس الإيماني وهذا المفهوم يعيش في قلوب المسلمين فإنه يبعث فيهم سيادة الأمم وقيادة سفينتها بأمان ومن هنا ندرك أهمية إحياء هذه الشعيرة في قلوب المسلمين جميعاً رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً.
وأردف فضيلته قائلاً: وهناك آليات لإحياء هذه الشعيرة في قلوب ووجدان المسلمين تذكر وتفهم منهج الأنبياء عليهم السلام ومنهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين والتابعين لهم في قيامهم بهذه الشعيرة وما تعرضوا له من التكذيب والأذى والصبر على مخالفيهم، فكانوا نماذج فريدة في أمرهم بالمعروف ونهيم عن المنكر فكل هذا يبعث على الاقتداء بهم والسير على ما ساروا عليه، ومن هذه الآليات التأكيد على أهميتها وفضلها من خلال خطب الجمعة والمحاضرات والدروس والكلمات التي تلقى أدبار الصلوات، ومنها إقامة دورات في الحسبة تعني بهذا الجانب، ومنها استغلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في زرع حس هذه الشعيرة في النفوس، ومنها إصدار الكتب والمطويات والنشرات والملصقات بعدة لغات لتؤكد وتحث على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإضافة إلى استغلال الفرص الممكنة في طرح مفهوم الاحتساب وحث المسلمين للقيام به في المنتديات والملتقيات العامة.
* إدارة العلاقات العامة والإعلام بالرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر |