(والمسألة محسومة عند البخاري ومسلم وأصحاب السنن والمسانيد وعند كل المفسرين المتقدمين منهم والمتأخرين).
هذه حزمة أخرى من التهويل والتخويف بالحسم عند المتقدمين أو المتأخرين وعند البخاري ومسلم وأصحاب السنن كأنني لم أعرض فصلاً كاملاً في الكتاب عما ورد في القضية من أحاديث عند البخاري ومسلم - رحمهما الله - وعند أهل السنن جميعهم ذكرت الحديث اليتيم الذي تكرر عندهم جميعاً وبينتُ أن أصل الحديث الذي ورد كاملاً عندهم هو "فقد كان الرسول صلى الله عليه إذا قضى الصلاة قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد).
أما ما بعد ذلك فهو مما دارت الآراء حوله واختلفت في إيراده ووضعتُ جدولاً يبين عدد مرات الذكر والترك ليس عند البخاري الذي يورد الحديث مرتبطاً بالأبواب التي يعقدها كما ذكر الدكتور حسن وهو صحيح، وإنما عنده وعند غيره ممن لم ينهج نهجه في هذا الحال بل إن الحديث ورد عند بعض أهل السنن خالياً من الإضافة التي هي موضع الجدل مثل أبي داود الذي لم يذكر وأد البنات أبداً ومثل النسائي الذي أورد الحديث ثلاث مرات في مواضع من سننه ولم يذكر في أي منها وأد البنات أبداً وهو يورد الحديث الكامل بنصه الذي اتفق عليه أهل السنن هو وغيره، فليس هناك حسم لا عند البخاري ولا عند غيره من أهل الحديث، والقضايا المحسومة لم تكن عند السابقين ولا في مفرداتهم بل كان الأمر عندهم أوسع بكثير كان الميدان للرأي والرأي الآخر ممدوداً دون حواجز أو ممنوعات، كان أحدهم يقول: كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، والآخر يقول: قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب. أما الحدية والقول الواحد والثابت والقطعي والمتواتر والمحسوم وما شاكل هذه اللغة فهي أقوالنا نحن اليوم التي لا نريد غيرها ولا نسمع سواها، ولا نظن أن أحداً غيرنا يأتي بصواب أو خير وهي ثقافة حُملنا عليها ورُسِّخت في أذهاننا حتى وصلنا إلى مناعة أوصدت العقول وأغلقت الأذهان على مسرب محدد من الفهم.
(وليس هو من ذوي الاجتهاد المطلق أو المقيد بحيث يكون من ذوي المفردات كا ابن تيمية مثلاً... إذ تكون القضية مرتبطة بعلم التفسير...الخ).
في هذه الحزمة لن أناقش مصطلح الاجتهاد المطلق والمقيد وأهله الذين لا يرى الزميل الكريم أن أحداً يتناول قضايانا الأدبية والدينية إلا أن يكون منهم مع أنه - حفظه الله - لم يعرفهم تعريفاً مانعاً جامعاً لعلنا نأخذ عنهم أو نستنير بآرائهم في الاجتهاد المطلق والمقيد، لكن ما يهمني هو ارتباط الوضع بالتفسير (إن القضية عنده مرتبطة بعلم التفسير) فأخبر القراء بمن أخذت عنه علم التفسير وهو بالتأكيد لم يكن من أهل الاجتهاد المطلق ولا من أهل الاجتهاد المقيد لكنه رجل أسلم حديثاً وجاء مسرعاً إلى من أنزل عليه القرآن يسأل عن أمر دينه فلما وصل المدينة وجد النبي والصلاة تقام فأخبره بأمره فدعاه للصلاة وسماع القرآن فلما سمع القرآن يتلى فسر القرآن لنفسه واكتفى بتفسيره ولم يعد للسؤال ليسمع تفسير القرآن ممن أنزل عليه الذي لا ينطق عن الهوى. فلما بحث عنه النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أنه فسر القرآن واكتفى بتفسيره لنفسه. ولم يسأل غيره حتى النبي. فلم يغضب النبي ولم يسأله كيف تجرأت على تفسير القرآن. وأنت لست من أهل الاجتهاد المطلق والمقيد ولم يسأله عن أصول التفسير وآلياته ومناهجه ولم يقل إنك ابتدرت الرؤية والموقف و لا بد من مواجهة الروايات بآليات الجرح والتعديل والتخريج ومواجهة الروايات بما هو أقرب منها ولم يطالبه بمثل ما طالبني به الدكتور حسن.
وهلم جرا من التهويل في الأمر. ربنا وصف لنا القرآن بأنه عربي مبين وبلسان عربي مبين، وأخوك من أهل هذا اللسان وبيئته العربية وقد زاد على ذلك حفظاً في شبابه للقرآن وتأملاً في مقولات المفسرين وآرائهم في العربية التي هي لسان القرآن. وزاد على ذلك فسمع من كبار المفسرين ومنهم الشيخ محمد الأمين محمد مختار الشنقيطي صاحب أضواء البيان عندما كان يبدأ من أول يوم من رمضان تفسيره بالحرم النبوي الذي لم تفتني حلقة من حلقات درسه سنوات كثيرة، ومثله سعيد حواء - رحمه الله - الذي كان له درس بعد صلاة العصر في كل يوم في المسجد الحرام ولسنوات عدة. وسمعت الحديث على كبار المحدثين في الحرم النبوي منهم المختار الشنقيطي وهو غير صاحب أضواء البيان. وغيره من علماء التفسير والحديث الذين كانوا يلقون دروسهم في الحرم النبوي الشريف الذي كان جامعة مفتوحة لأهل العلم من كل التخصصات وآخر من أخذنا عنه علوم الحديث هو الشيخ الدكتور محمد لطفي الصباغ وهو أستاذ لعلم الحديث في جامعة الرياض ولا شك أنك تعرفه جيداً.
والله سبحانه يقول. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}، ويُسر القرآن لا يحتاج إلى هذا الإجلاب بالخيل والرجل وشروط الاجتهاد المطلق والمفيد وقطعي الثبوت وقطعي الدلالة والإجماع والتواتر وأهل الاختصاص وذوي المفردات، وإني لأرجو من الزميل الكريم أن ينظر للقضية بضوابطها المنهجية التي اتبعها الكتاب ودافع عنها وبين الصواب الذي ذهب إليه بأدلته والحجج والآراء التي خالفها بأدلة قامت على استقراء تاريخ العرب في الجاهلية ومأثوراتهم الشعرية والنثرية والقولية والفعلية التي خلت من ذكر كل ذلك ثم زاد فذهب بعيداً إلى الأمم السابقة وإلى القرآن الذي أشار إلى عادة القتل للولد الذي يعني كلا الجنسين بنين وبنات والآثار التاريخية واستفاد من مكتشفات الحاضر ومهد لرأيه الذي يرى بالحفريات والعثور على البقايا الباقية للموؤدين في يومهم الأول من الأطفال وهم ذكور وليسوا إناثاً عند أمم غير العرب. وعاد إلى عادات الناس والعرب منهم ووجد تفسير الوأد وطريقته عند العرب في الجاهلية وعند العرب في الإسلام وهو الأمر الذي يتفق وصفه مع ما وصفت المأثورات التي عوّل عليها الباحث وأقر بدفن المولود حياً في يومه الأول للذكر والأنثى وذكر السبب عند العرب وعند غيرهم. ولهذا نهى القرآن عن ذلك وعظم إثمه. ولقد انتظرت من الزميل أن يأتي بنص واحد ينقض به ما أثبت ويقيم الدليل على بطلانه. وكل ما استطاع هو (ثبوت الظاهرة كما يراها علماء الأمة) (ولو كان للوأد دلالة أخرى لما كان السؤال عن سبب القتل) (فالمفسرون توسعوا في الإسرائيليات). وهكذا دواليك فهو يدور هكذا في دائرة التكرار الذي ملئت به بطون التراث المطبق على الذاكرة الثقافية والتراكم الذي أغلق نافذة النظرة فيما وراءه من أسباب وسأكتفي بالجملة التالية: (ولو أنه اقتصر على نسف الحكايات الخرافية، ولم يعقب على الظاهرة التي أقرها الذكر الحكيم والحديث النبوي الشريف والشعر العربي القديم ويداولها العلماء وهم الأدرى بتخصصاتهم لكان خيراً له وللمشهد العلمي) هذه الجملة هي كل ما دار عليه موضوع الكتاب فقد جعل للشعر القديم مجالاً ناقش فيه الوأد وأثبت بالبرهان أنه لا يوجد ذكر بل لم يرد حرف واحد في كل تراث الجاهلية القديم من شعر ونثر ومثل وقصة وأحجية وكل ما لفظته شفاه العرب فالجاهلية القديمة خلا من ذكر الوأد، ثم جاء لذكر الحكيم وأثبت بالأدلة أن الوأد الذي أشار إليه ونهى عنه وحرَّمه يحدث في الجاهلية ويحدث في الإسلام وتفعله العرب في جاهليتها وتفعله العرب في الإسلام وتفعله كل الأمم والشعوب بلا استثناء وأن ما ظنه المفسرون والمذكرون والشعوبيون والوعاظ خاصاً بالعرب في الجاهلية هو عام في الناس في كل العصور والدهور ولا يختص به العرب عن غيرهم، وهو عندما يفسر ما جاء بالذكر الحكيم يتفق مع معجزة القرآن الذي لا تفنى عجائبه ولا يخلولق مع الزمن، فالقرآن بين أيدينا بنصه ولنا معارفنا في تفسيره لم يعط فرد أو جماعة في أي عصر وفي أي مصر حق القول فيه دون غيرهم، وكذلك الحديث الذي ذهبنا مع أهله وفي كتبه ومصادره وقلنا ما قال فيه الناس ووافقناهم في ما ذهبوا إليه، أما ما تداوله العلماء وهم الأدرى بتخصصاتهم فلم نفتئت عليهم وإنما سرنا معهم وأخذنا منهم ما قام الدليل عليه واجتهدنا بما توفر من مصادر المعرفة ومما ترجح عندنا، ولا بأس أن نناقش الاختصاص فهل تراني وإياك من أهل الاختصاص في اللغة والأدب والشعر، أظنك ستقول نعم إذن أخبرك أن الاختصاص هو من هذا الجانب حق لنا في القرآن وحق لنا في الحديث وحق لنا في التاريخ وحق لنا في كل العلوم النظرية فأنت معتد بآليات المنهج كما تقول وآليات العلوم النظرية كلها واحدة أي أنني أنا وأنت نستطيع قراءات كل ما قاله هؤلاء في تخصصاتهم ونميز الصواب من غيره ونقول رأينا فيه ونطلع على نصوصهم ومصادرهم ومراجعهم ونعمل فيها آليات المنهج الذي تعلمناه وعرفناه.
والتخصصات لا تكون لإبطال النظر بل هي لا عماله ومدَّ المعرفة الإنسانية إلى الإرث الثقافي العام والمتشابهة في مصادره وإمكانات الاستفادة منه. وسأعرض للقراء فقرة مما جاء في الكتاب العزيز عن القضية نفسها من ذلك قوله تعالى في سورة الممتحنة حين بين ما هو المحرم عمله واتخذ عهداً على من يريد البيعة. بيعة الإسلام ولا سيما النساء، وما يؤخذ عليهن من عهد بحكم هذه البيعة فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} هذه الآية نهت المؤمنات عن عدد من المحرمات في الإسلام مبينة الحكم فيما نهت عنه، ولا يمكن أن يحمل هذا النهي على أنه يعني وأد البنات، كما حمل هذا المفسرون، لأن المخاطب في الآية هنَّ المؤمنات المسلمات، ومعلوم بداهة أن الإسلام حرم قتل النفس حتى من الحيوان إلا لمأكله بَلْهَ قتل الولد. ولو صح أن العرب تئد في جاهليتها البنات فإن المخاطب هنا مؤمنات مسلمات، يعرفن تحريم الإسلام، ومنعه لما في الجاهلية من عادات تخالف تعاليمه، بل تخالف الطبيعة حتى عند الحيوان. ومن يعرف لغة العرب وسياقها يفهم من هذا معنى التحريم ودلالته، وهو تحريم فعل يأتي حدوثه من المرأة خاصة. وانظر إلى هذه الكلمات تحريم ما نهيت المرأة عنه من أعمال: ) يسرفن، يزنين، يقتلن أولادهن، يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن( لم يُخاطب رجل بمثل هذا الخطاب، وإنما كان هذا الخطاب للمرأة خاصة التي يمكن أن يحدث منها مثل ذلك وهو الزنى ونتيجته الحمل، أو من نتائجه، وقتل الولد الذي جاء نتيجة الزنا، والعلاقة غير الشرعية وإخفاء هذا كله، أو جعله بهتاناً يفترينه عندما ينسبن الولد لغير أبيه إن كنَّ ذوات زواج أو قتله موؤداً إن كنَّ غير ذوات زواج، وأشارت الآية إلى موضعه وهو البطن، بين الأيدي والأرجل، بكناية لطيفة معجزة، وهذا كله مما يمكن حدوثه من المرأة خاصة وليس من الرجل. أما الرجل فانظر كيف خاطبه ونهناه عن ما حرم عليه وما يمكن حدوثه منه؛ فقال مخاطباً الرجال بما يخصهم مثل ما خاطب النساء بما يخصهن: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} فقد راعى القرآن حال المخاطب الرجل وطبيعته، وما يمكن أن يقوم به من أعمال، فحذره منها، وبيُّن حرمتها عليه، وقدم قتل النفس على الزنى في خطابه للرجل، وقدم الزنى على القتل في خطابه للمرأة وهذا غاية في دقة التعبير، وحرم عليهما ذلك كله بترتيب بياني بليغ يناسب الحال الخاصة لكل جنس الأنثى والذكر. ولم يجعل عدم قتل الولد شرطاً في بيعة الرجال كما جعله شرطاً في بيعة النساء وهذا دليل على أن المقصود هنا هو قتل المولود حال ولادته التي تقوم به بعض النساء كما بينا ذلك وشرحناه بالتفصيل. أما الروايات فتقول: إن الذي يئد هو الرجل حين يحفر حفرة لابنته ويدفنها فيها أو يأمر أمها بدفنها حية. فبأيهما نأخذ أبالروايات الخرافية الأسطورية. كما سميتها أم نصوص القرآن البينة الواضحة، ولو كان الوأد يحدث من الرجل لنص عليه القرآن حرّمه على الرجال وجعل تحريمه شرطاً في صحة بيعتهم، كما جعله شرطاً في صحة بيعة النساء. (وأما التفسير بالرأي وذلك مذهب المدرسة العقلية الحديثة).
فالله ربنا ما كلف أحداً من عباده إلا بعد أن يهبه عقلاً يميز فيه النافع من الضار واسمع إلى القرآن {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا}، {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أما من تخلى عن التدبر واستعمال العقل فانظر ماذا يقول عنه القرآن: {أُف لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} وقد استعمل مادة عقل أكثر من خمسين مرّة حمداً لمن أعمل عقله فدّله على الصواب، وذماً لمن الغاه فقاده إلى الخطأ. فالعقل هو مناط التكليف ولا أريد أن أزيد على ذلك ولا أظن أن عاقلاً يماري في نعمة العقل واستعماله والاهتداء به إلى الخير أو تجنب الشر. وأنت قد استشهدت بالمعقول حين قلت (وليس من المعقول أن يظل الأعلام من العلماء على جهل بمراد الله وبمراد رسوله، فيما يكون الباحث وحده الذي فهم مراد الله ورسوله) ومع أنك استعملت العقل دليلاً في هذه المرة وأنه هو الذي قادك إلى الاجتهاد فيما تعرضه فإني لا أعرف سبب مآخذك عليَّ عندما أتيت بأثر محمود عند الناس يقدمونه أمام اجتهاداتهم في تفسير ما جاء في الكتاب أو تناولهم للحديث المنسوب إلى النبي أو السنة المطهرة ولم أستطع الربط بين إيرادي لهذا الأثر وتجهيل من سبقني من الأعلام العلماء، وهل إذا ناقشت غرضاً أدبياً أو فكرة مختلف عليها لا يسعني ما وسع الذين سبقوني بالقول، وهل ينال ذلك من احترام العلماء الأعلام وليس هناك علاقة بين ما أقول وما أرى واحترام العلماء، فاحترام الناس كافة عامة وعلماء أحبه وأقرُّ به لكن لا يمنعني الاحترام من استعمال حقي في القول والرأي وحتى المخالفة والاجتهاد إذا رأيت موجباً أو دليلاً.
يقول المستغلون في علوم الحديث إن الرجل ليهتم في حديث ما يشغل نفسه به وبطرقه وأسانيده حتى إنه ليكاد يقسم على صحته وإن ضعف سنده، وأنا لو أقسمت على أنه لم يحدث عند العرب قتل للبنات أي وأد لهن كما صورته لنا الروايات لما شعرت بالإثم أو الحنث بالقسم لشدة ما تأملت بروايات القضية وما وصلت إليه، بعضه بما عرضت وبعضه بما استنبطت، ومع ذلك فإني لأرجو من أخي ومن كل قادر يهمه هذا الأمر أن ينظر فيما قلت ويمعن النظر بموضوعية وحياد ومنهجية سليمة ثم يبدئ رأيه فيما قلت، أو فيما خالفني فيه، وقولي حتى الآن عندي هو صواب يحتمل الخطأ، وأدعو من لديه دليل على غير ما ذهبت إليه إما أن يعلنه للناس، وإما أن يكتب به إليَّ وأكون له من الشاكرين. وليتسع صدر الزميل العزيز على هذه الممازحة إذ إنه حفظه الله حشد عدداً من المصطلحات الفقهية والأصولية وهو مغرم بها فيما يبدو، وسأعرض له واحد من هذه المصطلحات محتجاً به لنفسي وهو الاجتهاد، فأنا اجتهدت فيما أوردت بعد استعراض كل مسوغات الاجتهاد ومسائله وهو يريد أن يحرمني حتى أجر المجتهدين المخطئين باجتهاد لم يعتمد إلا على رأي من سبق، ومجموع من مضى، وقول من قال: ولم يأت بنص ينقض اجتهادي وإنما يجتهد باجتهاد مثله، والقاعدة تقول: إن الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله فهل أطمع منه بتطبيق هذه القاعدة في هذا الجدل والاجتهاد إما أن يأتي بالنص الذي ينقض به الاجتهاد السابق أو يقبل حكم القاعدة الفقهية، أما تضخيم الأسماء ) كالعلماء الأعلام والعمالقة، والقامات العالية، وعلماء الأمة، وأهل الاجتهاد المطلق والمقيد، والمحسوم، والمعلوم( ومثل هذه المفردات والمترادفات كلها أحترمها وأبجل أهلها، ولكنها لا تمحو قولي ولا تلغي اجتهادي ولا ترهبني لأنهم رجال ونحن رجال حتى مع المنكب الغضِّ والجناح القصير، والوقت الضائع والخروج من المولد بلا حمص ولا فتوش كما زعمت.
|