كثيراً ما يتفاخر الغربيون بديمقراطيتهم وبأكبر تجلياتها المتمثلة في الحرية، ويعجب المتابع لحالهم حينما يجعلون ذلك حكراً على شعوبهم، وكأنه لا يستحق الحرية سواهم. وقد فوجئنا وفوجئ معنا العالم من الهجمة الشرسة التي تولى كبرها في الدنمارك صحيفة (جيلاند بوسطن) التي نشرت عدداً من الكاريكاتيرات المهينة لما زعموها صوراً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والتي كانت بأقبح الصور وبأسوأ الفكر والتي هي صور نمطية لما يتداولونه ضد الإسلام ونبينا خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام من تصورات ظالمة بل وكاذبة.
وقد طالب المسلمون الدنماركيون سواء من أصل دنماركي أو من غيرهم من المسلمين الوافدين الذين نالوا جنسية الدنمارك بحكم أقدميتهم فلم تقبل تظلماتهم سواء من رئيس التحرير أو من غيره من الصحيفة ولم يعتذروا ورفع الأمر الى القضاء فلم يستقبل شكواهم بمزاعم رديئة، ويدعون أن تلك حرية لا يمكن ان يعتذر منها، ووصل الأمر لرئيس الوزراء الذي أخذته النعرة العنصرية رافضاً الاعتذار للمسلمين بالمبررات إياها.
وحينما تداعت المشاكل أمام الجميع وصل الأمر الى المسلمين الذين ضجوا ضد هذه العنصرية والحقد الأعمى على الإسلام ونبيه، بينما لا يمكن ان يجرأوا بالإساءة لمسألة أحقر من ذلك بكثير وهي دعوى الإساءة للسامية أو في انكار (الهولكوست) أو ما يعرف بالمحرقة النازية لليهود، وهي المسألة التي أخذت طابعاً فيه غلو كبير بين الإفراط والتفريط، نعم قد يكون اليهود تعرضوا للأذى من هتلر، ولكن لأسباب لا تخفى منها كون اليهود أعداء للدولة الألمانية في زمن الحرب، لكنها لم تصل الى الصورة التي أوهموا بها العالم، وما زالت أوروبا تدفع غراماتها للدولة الصهيونية، فمثل هذا الغلو، وبمجرد الشك في وقوع المحرقة لليهود، فإنه يخالف الحرية المزعومة ويخالف قوانينهم التي تجرم من يتطرق لها ولو ببحث علمي بحت.
وكان موقفاً مشرفاً من قيادتنا الحكيمة حينما استدعت سفيرها في كوبنهاجن للتشاور حيال الموقف اللامبالي من الإساءة لنبينا صلى الله عليه وسلم. كما أحدث الرأي العام السعودي ردود فعل كبرى حينما لم يجد أمامه حيال عنصريتهم سوى المقاطعة الشعبية، فكثير من المأكولات والمشروبات الدنماركية الشهيرة قاطعها المواطن السعودي احتجاجاً على مواقف الدنماركيين السلبية والتي تنبئ عن معاداة لا مبرر لها البتة مما جعل شركاتهم تشعر بالخطر المحدق باقتصادها لا سيما وأن السوق السعودي يكاد يكون أكبر الأسواق المستهلكة للاطعمة الدنماركية، فضلاً عن انتشار ظاهرة المقاطعة التي بدأها المواطنون والمقيمون غيرةً على دينهم ونصرةً للرسول الكريم الذي جاء رحمة للعالمين.
المشكلة ان الأوروبيين بعامة والدنماركيين والنرويجيين بشكل خاص يجهلون حقيقة ديننا الحنيف، هذا بالنسبة للعامة، أما الخاصة من المفكرين والمستشرقين ورجال الدين عندهم فهم يعرفون الإسلام ورسوله الكريم، فهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم وبالتالي لها مبرر لتلك الهجمة الحاقدة، في حين ان الدعوة للاسلام في الدنمارك - مع ضعف الجهود المتاحة - لم تأخذ أسلوبها الشامل وتأثيرها المطلوب لضعف الامكانات. وكنا نود لو ان الدينماركيين قد اعترفوا بخطئهم ضد إسلامنا وضد نبينا ولم تأخذهم العزة بالأثم، ولو كانت وجهة نظرهم الخاطئة أمام كل من خالفهم الرأي وليس ضد الاسلام وحده، والجبن عن مواجهة غير المسلمين وبخاصة مع اليهود لكان لاعتزازهم بالحرية المزعومة قد يكون له ما يبرره لكون نقدهم للجميع، ولكن تلك الحرب الشعواء على أقدس مقدساتنا هي عداوة وعنصرية وسوء أدب وإهانة لنا لا نرضاها، ونحسب انهم جنوا على أنفسهم ووضعوا أنفسهم في موقف لا يحسدون عليه.
أما عن مناهجنا الدراسية فإنه لا يمكن بحال ان تكون مجالاً لسب الآخر أو التهجم عليه بل ان مناهجنا قد عكست حقيقة ديننا الحنيف الذي يؤمن بالأنبياء والمرسلين ولا يصح إيمان المسلم ما لم يؤمن بالأديان السماوية ورسلها.
ونفخر أمام العالم بأن مواقفنا في المملكة العربية السعودية من هؤلاء المتغطرسين كان موقفاً حضارياً لم يكن عنيفاً ومسيئاً بقدر ما هو رد فعل مشروع تمثل في المقاطعة الشعبية حتى يعتذر هؤلاء. ونرى أن ذلك كاف متى ما جرموا الاعتداء على مقدساتنا مستقبلا مع بذل المزيد من الدعوة والتعريف بالإسلام ولا يسمح بحال ان تتحول ردود الأفعال الى عنف وهدم وتدمير، فهذه أساليب غوغائية لها آثارها السلبية على بلداننا واقتصادنا وهي فرصة سانحة لتعريف أبنائنا بأهمية الاعتزاز بديننا وعدم قبول استهتار الآخرين بنا وبمقدساتنا وأنه يلزم أن يوقف بأساليب حضارية.
وهكذا يتضح للجميع حقيقة ديمقراطية الغرب التي تكيل بمكيالين والتي يزعمونها، وما زالت صحفهم وصحف غيرهم في إيطاليا وفرنسا والسويد ونيوزلاند يكررون الخطأ بلا مبالاة واستهتار، ولا سيما أن ما يقومون به حرب إعلامية تسيء لنا ولمقدساتنا، فهو خلاف ديمقراطيتهم المزعومة بل خلاف لديانتهم وقوانينهم التي تحترم الأديان وترفض الإساءة للآخر.
إن الأمم المتحضرة وذات الديمقراطيات العريقة هي من يحترم الآخر ولا يتورط في الإساءة للآخرين، فكيف إذا كانت الإساءة بمنطلقات عنصرية؟ فلا شك أن ذلك يظهر تخلفاً لا تقره الأنظمة المدنية المعتبرة فضلاً عن القيم والقوانين الإنسانية.
نتمنى أن تكون هذه الاشكالية محل الدرس والعبرة لأن من لا يحترم الآخر لا يمكن ان يحترمه الآخرون. ونرى ضرورة أن تفعل قوانين الدول في هذا المجال حتى لا تحدث ردود فعل لا مبرر لها بعدما تسقط الحريات لأهداف مبيتة غرضها الإساءة لدين الإسلام العظيم الذي انتشر في العالم بما فيه الغرب لما احتواه من قيم خلقية وإنسانية هي محل الإعجاب والتقدير، لكن العنصريين والمغرضين بفعلهم يتورطون في تلك الإساءة بلا مبرر مقبول.
فهل يعي الدنماركيون الدرس؟ هذا ما نتمناه.
* وكيل وزارة التربية والتعليم للتخطيط والتطوير الإداري
|