غيب الموت كريم اليدين الشيخ محمد بن حمد القاسم عن عمر يناهز الثلاثة والثمانين في مكة المكرمة جوار البيت العتيق.. خرجت روحه الطاهرة من جسده متوسداً كتفه الأيمن في سريره تجاه القبلة داخل غرفته في قصره العامر.. مخلفاً الكثير من المآثر التي من أكثرها ذكراً الصدقات والصلة والكرم.. وأوقافاً تتحدث عن نفسها في كثير من أحياء مكة المكرمة، والذي من أكثرها بذلاً واهتماماً وبناء المساجد وتأثيثها وتفقدها.. ومن هذه المساجد التي تعتبر من أول وأكبر وأكثر حضوراً وجماعةً في حي العوالي بمكة المكرمة جامع ذي النورين، وجوامع أخرى حرص (رحمه الله) على تسميتها بأسماء الخلفاء الراشدين تقرباً لله وحباً لهم (رضي الله عنهم) ومن مآثره الخيرية تفقده بيوتاً عديدة في كثير من أحياء مكة المكرمة، وتوزيع الزكوات والصدقات والهبات على المحتاجين من الأقرباء والفقراء والجيران.. كما أنه حريص قبل أن يشتد عليه المرض ويقعده أسيراً في السرير الأبيض داخل المشفى أو قصره أن يكون برفقة سائقه لتوزيع الصدقات ونحر الإبل وذبح الضأن، وتوزيع لحومها يومي الأثنين والخميس على الفقراء في مرتفعات جبال مكة المكرمة.. وآخرون من الفقراء يحضرون من الأحياء البعيدة إلى أبواب قصره في حي العوالي.. فيأخذون أماكنهم في مقدمة القصر الممتدة لأخذ أماكن المئات من الفقراء..
وحرص على توزيع الصدقات النقدية بيده الكريمة وهو في عربته المتحركة..! وتزداد هذه الأعداد في شهر رمضان الكريم وفي عيدي الفطر والأضحى.. لست أبالغ أنها حقيقة شهدها المقربون إليه.. فكم من أسير سرير أبيض في أحد المستشفيات الخاصة إلا وتكفل بعلاجه.. وكم من سجين دين خلف القضبان إلا وتولى سداد دينه.. وكم من أعزب إلا وساعده في تقديم صداقه وتأثيث منزله.. وكم من يتيم إلا وتولى رعايته، وأرملة إلا واشترى لها منزلا، ومطلقة إلا وسدد ايجار منزلها.. هذا وامتد كرمه إلى اقربائه وجيرانه وضيوفه الذين وجدوا منزله في حي العتيبية مفتوحاً لإطعام الطعام وتوزيع الصدقات وإكرام الضيوف.. ومن مآثره إجلال العلماء وتقدير المشايخ وإكرم الوجهاء وتشريف المسؤولين.
يقول الداعية الإسلامي فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري شعراً قبل أربعين سنة:
محمد القاسم أزكى سلامنا تحية الإسلام والقرآن صاحب السعادة والأمانة والندا يا ابن الكرام ونخبة الإخوان بيت الكرم عون لكل مكسر ومهدد مثلي من الإخوان يصنع المعروف في أرجائها جاز الصراط وفاز بالغفران يصنع الإحسان وهو قادر الراحمون يرحمهم الرحمان مهبات ربي في الكرم كثيرة كهف الأرامل ملجأ الإخوان أكرم به شيخاً وأعظم قدره ذو همة في الرأي والإحسان من تؤدي الواجبات بدقة أنعم بشيخ دأبه الإحسان |
فقصره مأوى للأرامل والأيتام والمساكين الذين وجدوا فيه مالا يجدونه في أقاربهم.. فمآثر الصدقة والصلة والكرم ليست مع ذورة ثروته إذ أنه مشهود له منذ أكثر من ستة عقود ويديه طولى تصل إلى الفقراء والأقرباء والضيوف، وقد يكون أكثر حاجة لمثل هذه اليد التي تصل إليهم، إلا أنه يطعم الطعام على حبه السابلة والمساكين والفقراء.. تقرباً إلى الله الذي يجزي عباده المحسنين فأبواب منزله المتواضع في العتيبية بمكة المكرمة مشرعة للضيوف الذين يحضرون مائدته ومشاركته تناول الغذاء، والذي قد يكون وعائلته أكثر حباً إليه مستدلاً بالآية الكريمة.
قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} سورة الإنسان 12.
نرجو من الله العلي القدير أن يكون منهم ويقيه شر ذلك اليوم ويجزيه جنة وحريراً.
وإذا خرج من مسجده يتقاطر الفقراء إلى قصره ويده اليمنى لا تعلم ما تنفقه يده الأخرى من المبالغ النقدية، لإكرامهم بالصدقات إلى درجة أنه خصص رجال لتوزيعها على الفقراء المتواجدين في الشارع الممتد من مسجده إلى قصره.. فالداني والقاصي إلا وسمع عن أياديه الكريمة في بذل المعروف لعوائل فقيرة في أعالي جبال مكة المكرمة وخصص لهم صدقاتهم التي يوصلها إليهم في يومي الأثنين والخميس وقد تكون في أيام متتالية.قد يخيل إلى القارئ أني أبالغ في ذكر مآثر شيخنا الكريم إلا أنها حقيقة يشهد لها المشايخ والأعيان والمسؤولين وغيرهم، لأنه علم من أعلام بلادنا في بذل الخير إلا أنه رحمه الله لا يرغب في حياته بوح سر بذله في السراء والضراء.توفي في التاسع عشر من الشهر الثاني عشر سنة ألف وأربع مائة وستة وعشرين من الهجرة النبوية الشريفة وصلى عليه في الحرم المكي في ذروة وجود الحجاج والمعتمرين..شيعه أعداد هائلة من الأقرباء والفقراء والمسؤولين الذين مدوا سواعدهم لحمل جنازته لإيصالها المصلى داخل الحرم إلى أن سجى لصلاة أمام وخطيب الحرم فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب ودفن في مقبرة الشرائع.. وصلي على روحه صلاة الغائب في بعض ماسجد وجوامع مكة المكرمة.
ووصل المعزون من مختلف المناطق إلى قصره لعزاء عائلته الكريمة.. هذا وعزاؤنا لأبنائه وبناته وإخوانه وأخواته.. {ِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
|