وأنا دائماً حريص على مطالعة الصفحة الطبية في (الجزيرة) الغراء، أقرأ بعضها وأعرض عن بعض لكن أكثر ما يهمني اكتشاف جديد في الطب والدواء.
ومرض الروماتيزم والرثية (والأرياح) و(الرطوبة) مرض سيئ مؤلم، بلوت منه ما بلوت وعالجته إلى أن يئست وخفَّ - والحمد لله - ولم يذهب نهائياً، وكنت أعرف زملاء مصابين وصِفت لهم علاجات كثيرة: قالوا لهم عليكم بالمراهم والماء الدافئ، ووصف لبعضهم أن يدفنوا أرجلهم في الرمال الحارة، بل وصفت لهم (رئة الجمل تدهن بالجازولين - الكيروسين وتوضع على الركبتين) وألم الروماتيزم ولا رائحة الجاز والزفر، وقِرَب الماء الحار ولم ينصح أحد مصابي الروماتيزم بالكيّ - قالوا إنه لا يفيد إلا في عرق النسا، واشتهر لعدم وجود دواء ناجع لهذا المرض قول جرير (وليس لداء الركبتين طبيب).. ويضرب مثلاً لكل لأمر مستعصٍ، وأذكر من أحاديث المرحوم الشيخ علي الطنطاوي في برنامجه (نور وهداية) أنه ذهب إلى ألمانيا لعلاج ركبتيه فقالوا له: إنه ليس لركبتيه علاج - فقال لهم: هذا عندنا معروف منذ 14 قرناً وكنت أظن أن لديكم شيئاً آخر، وقرأ عليهم: (وليس لداء الركبتين طبيب) لجرير، وسألوه عن جرير وعن الشعر وسروا بحديثه ولم يعطوه علاجا شافياً.
وأقول من تجربتي الخاصة إن الأدوية المسكنة كالبنادول والأسبرين خير دواء لهذا المرض.
وأكثر الناس يعرفون الشطر الثاني من البيت وهو (وليس لداء الركبتين طبيب - أو دواء) ولا يعرفون الشطر الأول منه ولا قائله.
قائله الشاعر الأموي جرير بن عبد الله الخطفي أشعر الشعراء وأمدحهم وأغزلهم وأهجاهم وأفخرهم بأبيات مشهورة، فأمدح بيت قوله في الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان:
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بُطونَ راحِ
وأغزل بيتين قوله في أم عمرو:
إن العيون التي في طرفها حَوَرٌ
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراكَ به
وهنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ إنسانا
وأهجى بيتين قوله في هجاء الراعي النميري (شاعر أموي مشهور):
فغضَّ الطرفَ إنك من نُميرٍ
فلا كعباً بلغت ولا كلابا
لو اطّلع الغراب على نميرٍ
وما فيها من السوءات شابا
وأفخر بيت قوله يفتخر بقبيلة تميم:
إذا غَضِبَتْ عليك بنو تميمٍ
وجدت الناس كلهمُ غضابا
وقد قال (وليس لداء الركبتين طبيبٌ ضمن أبيات أعرض لها فيما يأتي:
قال هذه الأبيات في عتاب على الوالي (ابن سعد) حيث أحسن فيه الظن إلا أن الوالي أخلف ظنه ومنع رزقه - عطاءه - وفي الحديث الشريف : (.. وإياكم والظن فإن الظنّ أكذب الحديث) وفي حديث آخر: (لا تظننّ بكلمة خرجت من في أخيك إلا خيراً):
قال جرير:
1 - لقد كان ظني يابن سعد سعادةً
وما الظنّ إلا مخطئٌ ومصيبُ
وكان ظن جرير بابن سعد مخطئا، وفائدة بلاغية نحوية في (وما الظن إلا مخطئ ومصيب) ما وإلا تفيدان القصر والحصر: قصْر الظن على المخطئ - والمقصور عليه ما بعد ما، وفي النحو: ما نافية: الظنُّ مبتدأ، إلا أداة حصرٍ، مخطئ خبر ومصيب معطوف مرفوع، ويجوز في رواية ضعيفة ما المشبهة بليس والظن اسمها، ومصيباً خبرها منصوب (طبعاً في غير هذا الموضع).
2 - تركت عيالي لا فواكهَ عندهم
وعند ابن سعدٍ سُكَّرٌ وزبيبُ
وجرير لا فواكه عند عياله (ليذهب إلى الصومال حيث لا خبز)، ويحسد الوالي ابن سعد (لعله عمر بن سعد بن أبي وقاص) على السكر والزبيب، ويلاحظ أن السكر معروف آنذاك والزبيب (العنب المجفف) كثير حتى تُخرج منه صدقة الفطر (صاعاً من بر أو شعير أو زبيب أو تمرٍ أو أقِط).
3 - تُحنَّى العظام الراجفات من البلى
وليس لداء الركبتين طبيبُ
وهذا بيت القصيد وقد داوى جرير ركبتيه بالحناء (وهذا دواء آخر يضاف إلى ما سبق) لكن لم يفد حتى قال: وليس لداء الركبتين طبيبُ.
قالت سميرة توفيق عن (حِنَّة العروس):
ومتى يتم العَقِدْه واصير شَنَّتْهُمْ
والبس ثياب العرس واحنِّي إيدِيّا
وشنتهم يعني كنتهم (والكنة زوجة الابن) .. والشنشنة (تحول الكاف إلى شين) معروفة في لغة تميم وإن عمت البدو والفلاحين، قال المجنون مخاطباً غزالة تشبه ليلى: (المجنون قيس بن الملوح المعروف بقيس ليلى - وليلى هي العامرية ابنة عم المجنون - جنَّنته بحبها):
فعيناشِ عيناها وجيدشِ جيدها
ولكن عظم الساق منشِ دقيق
(فعيناك، وجيدك، منك)
طبعا ساقا ليلى عظيمتان
وفي بيت آخر:
فعيناشِ عيناها ولَوْنُش لَوْنُها
وجيِدُشِ إلا أنه غيرُ عاطلِ
(لونك، وجيدك) غير عاطل (أي غير عاطل من الحليّ فلا حليّ عليه بل جِيد ليلى مزيَّنٌ بالعقود والقلائد).
4 - كأنَّ النساء الآسراتِ حَنَيْنَنِي
عريشاً فمشيي في الرجال دبيبُ
وهو يدبُّ في مشيِّه لكنه لم يتخذ عصا، وغيره اتخذ عصاً وقال:
وكنت أمشي على رِجلَيْنِ معتدلاً
فصرتُ أمشي على أخرى من الشَّجَرِ
(عصا).. وقال كُثَيِّر عزة:
فكنت كذي رِجلين رِجلٍ صحيحةٍ
ورِجلٍ رمى فيها الزمان فشَلَّتِ
أي رمى فيها الزمان داءً (وهذا شاهد على حذف المفعول به).
والبيت السابق من قصيدة عظيمة لكُثَيِّر مطلعها:
خليليَّ هذا ربعُ عزةَ فاعقلا
قَلوصيكما ثم ابكيا حيث حلَّتِ
والقلوص الناقة: وبعده:
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا
ولا موجعاتِ القلبِ حتى تولَّتِ
وقد وشى إليه بعضهم أن عزة تشتمه فقال لهم:
مباحٌ لعز شَتْمنا وانتقاصُنا
مباحٌ لها من عِرضنا ما استحلَّتِ
وهذا هو الحب الحقيقي.
5 - منعت عطائي يا ابن سعد وإنما
سبقت إليَّ الموتَ وهو قريبُ
وما أظن الحاجة بلغت بجرير هذا المبلغ، وقد كان مدّاحا يُعطى مقابل شعره.