في داري الصغيرة في سكن الجامعة كنت غارقة بين كتبي وتعب الدراسة هد كياني والبرد سكن عظامي، والجوع تمكن مني، والأغلب أني سأنام الليلة كمشردة بلا طعام، فاليوم لم أجد وقتاً لآكل بين محاضراتي ولا أريد الآن في آخر الليل أن أعد الطعام وحدي وآكله وحدي. في المخيلة شريط من الذكريات يستعاد كلما خلوت بنفسي، أبي الذي قد تركني ورحل إلى رحمة الله، أمي الصامدة في مهب الريح وحدها، وماذا عن إخوتي أمازالوا صغاراً؟ كيف حال جدتي أمازالت على سجادتها تدعو لي؟ آه وكم اشتقت لشغب الصديقات يا ترى أماتزال لي من الذكرى عندهم نصيب؟.. ليت بمقدوري أن أصوّر حالي وأرسله بالبريد. أي بريد هذا الذي يحمل الحنين وأشد الحنين لأبي الذي ما غاب عن الذاكرة، كل شيء من حولي يشدني له، أشياؤه الصغيرة حتى حبيبات الهواء التي استنشقناها معاً تحمل كلمات بصوته لتسكن أذني.. هذا كتاب لغازي القصيبي على الطاولة كان قد قرأه في الطائرة في آخر رحله له من لندن إلى أمريكا.. فيه مرثية غازي لحبيبٍ له أودى بحياته نفس المرض الذي أودى بحياة والدي يا لمفارقات الزمن.
(حزمت حقائبك ومنحتني البحر الأزوردي
لوحت لي لوحت لك
وحين عدت غرقت في بحر الدماء).
حمداً لله على كل حال وأنك لم تشهد هذا اليوم الذي ترى فيه فلذة كبدك تعاني ما عانيت من كرب الزمان إنما هي أقدار كتبت لنا.وكما كنت تحلم بحياة أفضل أعدك ألا يسقط هذا الأمل من يدي لأفرح أمي وخالتي ومن اخترت لنا من المحبين وما بقي لنا من الناس الطيبين.
يا لذلك المساء الذي لا ينتهي.
اختلطت عليّ المشاعر أخذ الشوق يداعب كبرياء أدمعي فأبت هي أن تذرف وأبى الشوق أن يتركني وحدي وبقيت وسط حيرتي وسقمي فقد تمكن الحزن واليأس مني.
قمت لأصلي وكأنها صلاتي الأخيرة اعترضني الهاتف فإذا بها نوف ابنة خالتي من الكويت تسأل عني وتطلب مني قضاء عيد الأضحى بصحبتهم، وفي غضون أيام حزمت حقائبي وذهبت إلى الكويت فقد صادف عيد الأضحى المبارك إجازة عيد الميلاد استقبلوني بكل محبة.
احتضنوني فأنسوني الظروف القاسية التي ألمت بي، خالتي بنات خالتي الثلاث المقربات لي ومحمد ذلك المشاغب الصغير.
زوج خالتي عمي الرائع والصديق الصدوق لوالدي ورفيق دربه وعديله بالعرف الاجتماعي والذي كان بمواقفه أكبر من كل الأعراف أظلني بظله كان لي الخيمة والوطن، وجدت في الكويت أرضاً هي امتداد لأرضي، وعطاء يتجدد مع كل حكاية وفي كل زمان.
قضيت مع أهل الكويت أياماً سعيدة حبهم أروى ظمئي، ضحكاتهم أنستني وحشة الغربة علموني بأن عظمة المحبة أقوى من قسوة الكراهية.
أيقنت أن لي بينهم مكاناً..
سكن الكويت وأهله قلبي..
أضافوا إلى شريطي ذكرى جميلة..
غادرتهم وبداخلي شعور جميل أنني أنتمي لكل مكان، أغني كما غنى مرسيل خليفة قصيدة محمود درويش كل قلوب الناس جنسيتي فلتسقطوا عني جواز السفر، صعدت الطائرة عائدة إلى داري الصغيرة وضعت رأسي على المقعد أغمضت عيني ونمت وكأني لم أنم من قبل.
|