من خلال خلفيتي العلمية وتجربتي العملية في مجال الاستشارات الاقتصادية وقفتُ على حالات عديدة تعثرت فيها مؤسسات وشركات في القطاع الخاص بسبب سوء الإدارة. كما أن تردِّي أداء بعض الأجهزة الحكومية يعود إلى سوء الإدارة، ولعل ذلك من أهم الأسباب وراء تخصيص بعض المؤسسات الحكومية ونقل إدارتها إلى القطاع الخاص، وهذا التوجه يفترض أن تكون الإدارة في القطاع الخاص أكثر كفاءة. ولو نظرنا إلى واقع الإدارة في الدول النامية عموماً نجد أن سوء الإدارة يمثل أحد أهم العقبات التي تعترض طريق التنمية، وأحسب أن المتابع المهتم يلمس ذلك في عالمنا العربي بشكل خاص.
وقد اطلعتُ على مطوية تعبيرية تعكس الخلل الواضح في الإدارة العربية، وهو خلل لا يقوم على سوء التطبيق فحسب، بل يعود إلى قصور في إدراك القواعد العلمية الأساسية لعنصر الإدارة، وهو عنصر يقوم في المقام الأول على المهمات ولا يعتمد على الشخصيات، وإن كان هذا ما نعتقده في عالمنا العربي الذي ما زال يقدم الأهواء ويتغاضى عن تلك القواعد والأسس العلمية.
والمغزى التعبيري فيما جاء في تلك المطوية يتجسد في قصة سباق للتجديف شارك فيه فريقان، يتكون كل منهما من ثمانية أشخاص، فريق عربي وفريق ياباني. واستعد الفريقان للسباق بشكل جيد، وسخَّرا له الإمكانات اللازمة، ولكن الفريق الياباني فاز في السباق بفارق ميل واحد. ولم تكن تلك النتيجة مرضية للفريق العربي؛ مما حدا بالمسؤول الأول عن الفريق العربي إلى تشكيل لجنة خاصة لبحث أسباب إخفاق الفريق، وتقديم الحلول المناسبة لتفادي الإخفاق في السباق القادم. وعقدت اللجنة المكلفة عدة اجتماعات اطلعت خلالها على تجربة واستعدادات الفريق الياباني الفائز في السباق الأول، ولاحظت اللجنة في تقريرها الذي رفعته إلى المسؤول الأول أن الفريق الياباني كان يتكون من (كابتن) واحد وسبعة (مجدِّفين)، في حين أن الفريق العربي كان يتكون من (مجدِّف) واحد وسبعة (كباتن). ورأت اللجنة أن هذا الأمر يحتاج إلى الاستعانة بشركة استشارات مهنية عالمية متخصصة وأخْذ مرئياتها بهذا الخصوص بهدف إعادة هيكلة الفريق العربي. وقد أشارت الشركة الاستشارية المهنية العالمية المتخصصة في تقريرها إلى أن مكمن الخلل في الفريق العربي هو وجود عدد كبير من (الكباتن) وعدد قليل من المجدِّفين، وطالبت بإعادة هيكلة الفريق العربي. وبعد اطلاعه على التقرير أصدر المسؤول الأول عن الفريق العربي قراراً إدارياً يقضي بإعادة هيكلة الفريق؛ حيث يتكون من أربعة (كباتن) يقودهم مديران مباشران بالإضافة إلى مدير رئيسي أعلى، على أن تُسند مهمة التجديف إلى (مجدِّف) واحد. وتضمن القرار فقرة بأهمية تطوير قدرات (المجدِّف) وتقديم الحوافز المادية والمعنوية له حتى يتحسن أداؤه في السباق القادم. وبهذه الهيكلة الجديدة خاض الفريق العربي السباق الثاني مع الفريق الياباني الذي فاز للمرة الثانية، ولكن بفارق ميلين في هذه المرة.
وكانت نتيجة السباق الثاني مفاجأة غير مقبولة للمسؤول الأول عن الفريق العربي الذي أصدر قراراً عاجلاً بإعفاء (المجدِّف) من عمله بسبب أدائه غير المرضي في السباق، مع تقديم مكافأة تشجيعية لإدارة الفريق لمستواها العالي الذي قدمته خلال مرحلة التحضير والإعداد للسباق الثاني. وبمشاركة الشركة الاستشارية المهنية العالمية المتخصصة خلص تقرير عاجل عن أسباب إخفاق الفريق العربي في السباق الثاني إلى أن الاستراتيجية التي سار عليها الفريق العربي كانت جيدة، وأن الحوافز المادية والمعنوية التي حظي بها (المجدِّف) كانت مناسبة، ولكن الأدوات المستخدمة يجب تطويرها!
وبصدور هذا التقرير الأخير العاجل كلَّف المسؤول الأول عن الفريق العربي شركة عالمية متخصصة أيضاً لتصميم قارب جديد.
حقاً.. فتِّش عن الإدارة!
* رئيس دار الدراسات الاقتصادية - الرياض |