إذا كان الشاعر العربي يقول:
إن القلوب إذا تنافر ودّها مثل الزّجاجة كسرها لا يجبر |
فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطينا قاعدة في تعارف القلوب، واكتساب بعضها ودّ بعض، حتى تزول الجفوة، وتتحقّق الألفة، وحسن التعايش، فيقول عليه الصلاة والسلام: (الأرواح جنود مجندّة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف).
ورغم أن الإسلام هو الدين الذّي لا يقبل الله من البشر ديناً سواه، كما هو أمر الله سبحانه: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (سورة آل عمران 85).
إلا أن حكمة الله اقتضت، عدم إكراه الناس على الدخول فيه، وأن الهداية إليه، ما هي إلا نور يقذفه الله في قلب الإنسان، ليتبدّل معه البغض إلى محبّة، والعصيان إلى طاعة وانقياد، (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) (سورة القصص 56)، ومن يتعمق في شرع الله، وتوجيه رسوله يجدها تغزو القلوب وتبث المحبة.
فكانت الدروس البليغة، التي علمها الله لأنبيائه، حتى يغزوا قلوب الناس، لتتفتح الآذان للسماع، وتشرئب الأفئدة للتلقي، فيأمرهم سبحانه: بالرفق ولين الجانب، وفي خطاب منه سبحانه لموسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون، لدعوته إلى سبيل الرشاد، مع أنه معروف عنه: سهولة الإذن عليه، وبذل الطعام، فأمهله الله - أيْ زاد في عمره - كما قال عليّ رضي الله عنه، مع دعواه فيما ادّعاه، من منازعة الله في سلطانه: أمرهما جلّ وعلا، بأن يقولا له قولاً ليناً، لعله يتذكر أو يخشى.. فكان بينهم الحوار الذي ذكره الله في كتابه، حيث انغلق باب قلبه، وصمّتْ أذنه عن السماع، فقامت عليه الحجة بالبلاغ.
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أدّبه ربّه فأحسن تأديبه، فجعل خُلقه من أعظم الأخلاق وأحسنها، وحلمه تجاوز معهود الناس، في التحمّل والصبر، فقد أمره ربه بمثل هذا القول البليغ: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (سورة النحل 125)، فهذا مما تنفتح معه القلوب، وتتبصر العقول، ونهاه عن الأعمال والطباع التي تنفّر، وتنغلق معها الأفئدة: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (سورة آل عمران 159)، إنها آداب ينفتح معها كل باب مغلق، وتنجدب إليها الأفئدة الصافية.
ولئن جاهرنا الأعداء بالبغضاء والسباب، فإن ديننا يأمرنا بمقابلة الإساءة بالإحسان، كما كان رسول الله يعمل مع قريش وغيرهم من قبائل العرب، الذين آذوه وناصبوه، وأدموا عقبيه وهو يدعوهم إلى دين الله، ويقابل إساءتهم وأذاهم بقوله: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).. ذلك أن من يحمل رسالة الله يجب أن يتحمل في سبيلها.
وما نرى من بعض الشباب المنتسبين للإسلام، من أعمال وعنف، باسم الجهاد والعداوة للكفار، بل وتكفير من لم تنطبق عليه شعاراتهم، ولا حجة إلا الإيمان بالله فإنّ عملهم هذا يتنافى مع مبادئ الإسلام، ومنهجه الدّعوي في النفاذ إلى أعماق القلوب.
ذلك المفهوم الذي أدركه، تلاميذ المدرسة المحمديّة، حيث فتح الله على أيديهم ما عُرف من المعمور في القارات الثلاث، بحسن التعامل، وغزوا القلوب بالأخلاق الحسنة، واحترام الآخرين: تعاملاً مادياً، وتجاذباً خلقياً، وقدوة صالحة، وقولاً حسناً، ورفقاً مع من لم يعلن العداء: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (سورة الكافرون 6).
لم يمنعهم دينهم من التعامل مع من يغايرهم دينياً، لأنهم أخذوا ذلك من القدوة برسول في تعامله مع يهود المدينة، فلقد كان يبيع ويشتري منهم، ومات عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي في قرض اقترضه منه، ولم يَمْنَع التعامل التجاري: بين المسلمين والكفار في الجزيرة، ولا مع أهل الكتاب: من يهود ونصارى في الشام قبل أن يفتحها المسلمون، وكذا في اليمن، ولا مع الكفّار في الجزيرة، حتى لا تنقطع مصالح المسلمين.
ومن مدلول هذه الآية في سورة الممتحنة: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (8)، فإن أسماء بنت أبي بكر، قدمت عليها أمّها المدينة وهي لم تزل كافرة، ومعها هدايا، فلم تقبل هداياها، ولم تدخلها منزلها، فسألتْ عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية، فأمرها رسول الله أن تُدْخلها منزلها، وتقبل هديتها وتكرمها، وتحسن إليها وتصلها.
إن هؤلاء الذين ابتدعوا في الدين بدعة، وأحدثوا في واجهته، أمام الراغبين فيه، شرخاً شوّه نظارة الإسلام في عيون الآخرين، الراغبين في دراسة مبادئه وما تدعو إليه تعاليمه، من تسامح وألفة، وتقارب.. حيث قتلوا من أهل الكتاب وغيرهم، رجالاً ونساءً، ممن لم يرفع راية ضد الإسلام، ومن جاء لهذه البلاد مسالماً ومساعداً بخبرته في البناء والتعمير. هؤلاء قد تنكبوا طريق الدعوة، وخالفوا أمر الله فيما سموه جهاداً، فقد تصرفوا باسم الدين والجهاد، تصرّفات ينفر منها العقل السليم، وتنغلق معها أفئدة، راغبة في حُسْنِ التعامل، ومنجذبة إلى حسن الاستماع لمحاسن دين الإسلام، ومعالجته لقضايا الحياة كلّها..
فوصموا الإسلام، بأعمالهم المشينة، بما هو براء، براءة الذئب من دم يوسف، وسنّوا سنة سيئة هي الإرهاب والعنف، الذي جعله أعداء الإسلام وصمة عار في جبين دين الله الحقّ - الإسلام - فوجدها الحاقدون فرصة ليطعنوا: تعاليمه وعباداته ومنهجه التربوي والتعليمي، المستقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بخنجر مسموم لتشويه مكانته.. ومباعدة أمم الأرض عنه.
فهل فكّر هؤلاء لجهلهم أو انسياقهم لمن يدفعهم في خطورة ما أقدموا عليه، في بيئتهم أولاً، وفي الانعكاس على دين الإسلام، والدعوة إليه.. إذْ لو عقلوا وتبصروا لعلموا أن عملهم هذا لا يخدم إلا أعداء الله وأعداء دينه.
إن الذين لم يقاتلونا في الدين، ولم يرفعوا راية الجهاد ضدّنا، ويبرزوا العداوة لنا ولديننا، يأمرنا ربنا بأن نبرّهم، ونقسط إليهم، يقول الشيخ الشنقيطي في تفسيره على هذه الآية: أما القسم العام وهم الذين كفروا بما جاءهم من الحق، لكنهم لم يعادوا المسلمين في دينهم، لا بقتال ولا بإخراج ولا بمعاونة غيرهم عليهم، ولا ظاهروا على إخراجهم، فليس ما يمنع من برهم والإقساط إليهم، وكلامه هذا يعني عدم الاعتداء عليهم أيضاً.
وأيّد قوله هذا بما رواه عن الطبري في تفسيره: بأن المقصود: من جميع أصناف الملل والأديان: أن تبروهم، وتصلوهم وتقسطوا إليهم، وأورد نموذجاً بوفد نجران والشام واليمن، وتميم الذين جاؤوا يفاوضون ويفاخرون، فيأذن لهم رسول الله، ويستمع مفاخرتهم وحجاجهم وتحدياتهم، ويقابلها بالإحسان والجوائز وتأليف القلوب.. فدخلوا في الإسلام وما أحوجنا إلى بث هذه الروح وترسيخ المنهج السليم في القلوب، لعل الله يغير حالاً بحال، ويصلح ما فسد من المفاهيم.
طريق الهداية
أُسِرَتْ سفَّانة بنت حاتم، وجيء بها إلى المدينة، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدعوها للإسلام وتأبى وتقول: يا محمد إنَّ أبي حاتم يطعم الجائع، ويكرم الباني، ويحبّ مكارم الأخلاق، فيقول لها رسول الله لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه فإنه يحبّ مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق.. رددت هذا القول عدة أيام ولم ترغب في الإسلام. ثم عفا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعثها مع قافلة إلى الشام لتلحق بأخيها، الذي فرّ إلى الشام بغضاً في الدعوة وتنصر، ثم لما منَّ رسول الله على أخته وأكرمها وأعطاها، كما قال ابن كثير: فبعدما رجعت إلى أخيها في الشام رغبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أخلاقه وتسامحه رغبتها في الإسلام.
فقدم عدي بن حاتم الطائي، إلى المدينة وكان رئيساً في قومه طي، وأبوه المشهور بالكرم: حاتم الطائي، فتحدّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عنق عدي صليب من فضة.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرأ لما رآه هذه الآية من سورة التوبة: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ) (سورة التوبة 31)، وسمعها عدي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال نبي الله عليه الصلاة والسلام: (بلى إنهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتّبعوهم فذلك عبادتهم إيّاهم).
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عدي ما تقول؟ أيضرّك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئاً أكبر من الله.. ما يضرك.. أيضرك أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم إلهاً غير الله) ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق، وأسلمت أخته ومن معهم.
قال: فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: (إن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون).
قال السّدي: إنهم استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، ولهذا قال سبحانه: (وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا) أي الذي إذا حرّم الشيء فهو الحرام، وما حلله فهو الحلال، وما شرعه اتّبع، وما حكم به نفذ لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون. (تفسير ابن كثير 2-348-349).
|