الحج: شعيرة عبادية - في الإسلام - محددة الزمان والمكان تجب على المسلم القادر أيا كان موطنه مرة في حياته، وتشرع تطوعا أكثر من ذلك.
يجتمع في الحج في مكة المكرمة ما بين يوم الثامن من شهر ذي الحجة حتى الثاني عشر أو الثالث عشر منه ملايين المسلمين المتفقين المختلفين:
المختلفين في لغاتهم ومجتمعاتهم وأعراقهم وأساليب عيشهم ومستويات ثقافاتهم..
والمتفقين في تصوراتهم للوجود، وفي عباداتهم صلاة وصياما وزكاة وغيرها، وفي القيم العامة التي تحكم سلوكياتهم.
يجمعهم الحج في شبه دورة تدريبية على الانصهار الطوعي الذي يسعى إليه الإنسان من مختلف الأقطار بنفسه راغبا، حيث يتوحدون في اللباس والهيئة رداء وإزارا أبيضين للرجال، وكشفا للرأس، وكشفا للوجه بالنسبة للمرأة، ويتوحدون في الشعار الذي يدخلون به هذا النسك ويعلنون التزامهم به أمام الله (لبيك الله لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، كذلك يتوحدون في حركتهم العملية بين المشاعر المقدسة طوافا بالبيت وسعيا بين الصفا والمروة ووقوفا بعرفات، وإفاضة إلى المزدلفة ورميا للجمار بمنى ومبيتا بها، وحلقا أو تقصيرا لشعر الرأس.. ثم إنهم يتوحدون في غاياتهم التي يستهدفونها من حجهم هذا وهي القرب من الله، والفوز برضوانه.
هذا التوحد الوقتي الشامل بالروح الإيمانية الغامرة وبالشمولية الجامعة للقلب والفكر والسلوك يمثل رابطة لهذا المسلم لا بالمكان المقدس الذي زاره وامتزج بمناسكه فحسب وإنما بالمجموعات التي عاش معها والتقى على أخوة التدين لله وإياها، ومن خلال ارتباطه بتلك المجموعات يلتقي إيمانيا، وفكريا مع من وراء تلك المجموعات، مع الأمة الإسلامية كلها.
نعم يختلف هؤلاء المسلمون في أزيائهم، وفي كثير من حركتهم المدنية بل وفي بعض أساليب تعبداتهم - مما اختلف فيه الفقهاء -
لكنه اختلاف تنوع يزيد الصورة جمالا لا اختلاف تضاد وشذوذ، إنه اختلاف في الأشكال راجع إلى توحد في القواعد التي بنيت عليها تلك الأشكال، إن اختلاف أنماط اللباس في أزيائه بين مجتمعات المسلمين مرتكز على وحدة تنطلق منها تلك الأزياء تتمثل في المواصفات الشرعية للباس المسلم أن يكون طاهرا، ساترا..
هذه هي منهجية الإسلام في بناء شخصية أمته من خلال شريعته التي يمثل الحج أحد الأركان المهمة فيها، بما له من دور رائد في هذا المجال.
ليس معنى هذا أن عالمية الإسلام لا تستوعب سوى أهله، إن غير المسلمين مستوعبون في الإطار الحضاري الإسلامي بما يفوق استيعاب أي حضارة أخرى، لا من خلال قسرهم على الانصباغ بصبغة الإسلام كما تفعل كثير من الأديان والحضارات بما فيها الحضارة الراهنة بمنطقها العولمي الاختراقي للثقافات الخصوصية للشعوب وإنما من خلال استنفاذ كرامتهم من المصادرة وحرياتهم من الإهدار لتقوم قراراتهم المصيرية لحياتهم على أساس هذه الكرامة والحرية دخولا في الإسلام إن شاءوا، أو بقاء على أديانهم السابقة مع حفظ حقوقهم الشخصية والمالية، وخصوصياتهم الدينية اعتقادا وتعبدا، إنها مفارقة كبرى بين منهج الإسلام في عالميته القائمة على اعتبار التعددية في ظل حضارتهن وبين منهج العولمة الذي يسوق له - راهنا - والذي يسعى من خلال وسائل الإعلام والاتصال والمؤتمرات والاتفاقيات الدولية، والانسياب البشري إلى تنميط أمم الأرض وفق صبغته الثقافية ذات السمة العلمانية، والدنيوية النادية، حيث تتكاثف الضغوط في هذا السبيل على الأمم والشعوب بغية استلحاقها في ركب هذه العولمة.
إنه فارق ما بين حضارة مستندها وحي إلهي من خالق البشر والعليم بهم وبين حضارة بشرية مستندها خطط بشرية تستهدف تحقيق مصالح أنانية على حساب الآخرين.
(*) كلية الشريعة بالرياض |