لم أكن أعرف أنه سيكون للدموع لقاء .. وللحزن بدونك مساء .. يوم تعانقت القلوب .. وجاء موعد الذهاب لغرفة الأفراح .. الحب يملأ قلبه .. وجوارحه اتجاهها .. هي الصدر الدفيء له والأم الحانية .. الواقفة بجانبه .. اتفقا على كل شيء حتى تحديد يوم الزفاف .. وكانت السعادة تملأ عليه حياته .. ينتظر فقط تحديد اليوم في حبيبته .. وزوجة المستقبل وجنة الراحة بين ذراعيها .. حتى أنه هيأ لها مراسيم الاحتفال .. ووزع رقاع الدعوة .. ليجتمع كل الأحبة يشاركونهم هذه الفرحة في أجمل ليلة في العمر .. تأخر الجواب عليه فجأة ويمر اليوم تلو الآخر .. ويمضي من الزمن الشهر الأول .. حبيبته تبتعد عنه أكثر .. قلّت الاتصالات .. ولا تحاول الاتصال به .. لا تنقطع عنه فجأة ليحزن عليها وينشغل تفكيره بها وهي بين الفينة والأخرى تطمئنه .. وتقول له فقط إنني مشغولة أجهز نفسي .. وأبتاع أغراضي الخاصة .. و... وغيرها من الأعذار المستمرة والتهرُّب الواضح في كلامها .. فعزم في تلك الليلة أن يحدد موقفه معها .. وأن يضع بعض النقاط على بعض الحروف العاقلة بين زحمة الأيام المتقاربة.
- رفع سماعة التلفون ليكملها .. فردت أختها تزجره بالرفض ولتقول له لقد ذهبت .. ويحاول إقناعها أنّ الأمر ضروري وفيه تحديد مصير وربما نهاية البداية لإكمال الطريق .. فتقف له بالصد .. فيشد غضبه وزعله .. ليسد الخط لتضيق به الدنيا .. وكأن الزمن توقف بين يديه في هذه اللحظة .. ودار حديث بينه وبين نفسه وهو هائم على وجهه يتنقل في الشوارع .. وعلى أرصفة الشاطئ .. لماذا تحاول التهرب مني؟ لماذا ترفض التحدث معي؟ .. وما الذنب الذي اقترفته معها .. من هو الشخص الآخر الذي يريد تحطيم حياتي؟ ... أنا لم أخطئ في حقها يوماً .. فأنا أحبها بمنتهى الجنون ولا أستطيع الابتعاد عنها .. أو حتى التفكير بغيرها وفي كل حياتي ... أفكار تتطاير في رأسي ولا أجد جواباً لها .. يرضي حتى غرور نفسي ... أحاول النوم بين أصوات الموج في هذه الليلة ولم استطع ... لقد هجرني النوم ... ورافقني الحزن والدموع .. وتشهد عليّ جدران غرفتي .. أنني أحبها هي .. وقلبي هو الذي اختارها ... وفضّلها على كل النساء .. تسلل صياح الديك لغرفتي يعلن بداية الفجر ... وتباشير الصبح .. سمع الأذان فازداد بكاءاً وتحشرجت الكلمات في حلقة .. يفكر بها .. لأنّ أذان الفجر كان يرافق صوتها عندما تنهي مكالمتها معه ... أذهب لأداء الصلاة ... وتصبح على خير ... في الغد سيكون لنا لقاء .. ترك الأيام تمضي لعل السحاب والمطر يأتيه بأنباء عنها .. أو حتى يسمع صوتها ليوقظ الأحلام ليطمئن منها لماذا كل هذا الابتعاد .. عاش على أسراب أمل .. والألم يمزق قلبه .. ويسهر ليله .. وأشغل نفسه بطبع كروت الزفاف ولكنه لم يحدد اليوم ولا التاريخ فيها ... ضمّها لصدره .. وقبلها .. لأنّها هي من اختارها .. ينظر فيها وكأنه يراها ... مرت شهور قليلة وهو على حالته هذه .. فقد كبر عشرين سنة من الحزن والهم والانتظار .. عندها عزم على اتخاذ القرار إما العودة وإما الراحة من كل هذا العذاب .. وحتى لا أعذب نفسي بالحرمان .. وأرهق عقلي بالتفكير .. وسوف أعيش على ذكراها .. ولن اسمح لأحد أن يأخذ مكانها في هذا القلب، ولن يحتل مكانها سواها أحد حتى أموت حافظاً هذا الحب لها لا يشاركها فيه أحد .. وهو غارق في التفكير لطريقة توصله لها .. رن الهاتف أكثر من مرة .. وكأنه لم يسمعه فقد كان شارد الذهن .. حتى عاد للواقع فالتقط السماعة بدون اهتمام ...
- ألو .. ألو .. عبد الله .. كان الصوت حزيناً وكأن القلب من أعماقه يتحدث هل عرفتني ..
- صوتها ما زال يغرد في أذنه ..
- نعم - أمل - عرفتك .. وكيف ينسى الإنسان روحه .. وقلبه .. والدموع تذرف .. أين أنت لماذا هذا الجفاء وأنا الظمآن لكِ؟.
- نعم - عبد الله - نعم ..
- أحبك ملء جوارحي .. ويشهد الله على هذا .. فلن تصدقي ماذا فعلت بي الأيام الماضية .. وكيف عصفت بي الأفكار بدونك .. لقد كنت حزيناً .. معاتباً .. ميتاً .. أما الآن وأنا اسمع صوتك فقد ذهب عني الحزن والتعب .. اليوم فقط عادت إلي الروح .. وسرى الدم في عروقي وأذاب الجليد هول قلبي وتفتحت شراييني وأزهرت الورود في حديقتي وتطايرت الفراشات تغني أناشيد الربيع .. اليوم وُلدت من جديد عندما سمعت صوتك ..
- فقاطعته بنبرة حزينة وأنين في الصدر وتنهيدة خرجت من أعماق القلب .. عبد الله اسمعني إذا كنت تحبني فأني أسألك بالله أن تبتعد عني .. وأن تنساني إلى الأبد .. وتعيش حياتك بدوني أرجوك إن كنت تحبني.
- نزل الخبر - الطلب - كالصاعقة المفاجئة التي لم تترك لأحد حرية الكلام ولا حتى البحث عن أسباب النجاة .. فقد شلّت بكلماتها ... ينابيع الأمل لتجف .. وتوأد الفرحة في مهدها .. وتقتلع أطواق الياسمين من قلبي .. تلعثم لساني .. وجفت الكلمات في حلقي .. وأصبحت جثة هامدة وروحاً بلا جسد .. وإنساناً بلا هوية .. تنقلني الرياح مع حفنة الرماد المتطاير في الهواء .. أسألك لماذا .. أرجوك؟
- فلم تتمالك نفسها من البكاء وندب حظها .. صدقني إنّه رغماً عني سوف أتركك وأبتعد عنك.
- يقاطعها ... أمل، فقط أريد سبباً واحداً وتفسيراً منطقياً للأحداث، فمن الصعب على الإنسان أن يترك كل ما في داخله هكذا فجأة بدون مقدمات تبرر سبب الابتعاد ورجاء ليكون القرار من طرف دون الآخر لأن هذا فيه من الظلم والإجحاف بحق الآخر .. وبعد سيل من الإلحاح والترجي المصاحب بكلمات ممزوجة بالدموع الحارقة الخارجية من أعماق القلب ...
- ... أجابته بصوت مبحوح من شدة البكاء .. أسمع كل محاولاتي الابتعاد والصد مني .. كانت بسبب معاناتي المفاجئة مع المرض الذي داهمني .. ليحطم كل أحلامي .. وآمالي معك .. فقد أخبرني الأطباء أني أعاني من فشل كلوي وعلى هذا فإني سوف أذهب للمستشفى مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع الواحد لإجراء الغسيل .. هذا الذي كنت أخفيه عنك كل هذه المدة .. وهذا هو سبب انقطاعي وتهرُّبي منك .. فلم أكن أريد أن أدخلك معي في هذه المعاناة .. والألم الذي حدث لي فجأة .. وأنت تعرف أنني لم أكن أعاني من شيء من قبل .. سامحني .. وكم أتمنى لك حياة سعيدة .. مع السلامة.
- قاطعها قبل إغلاق الهاتف وأجابها .. والحزن يملأ صدره .. ويفيض به قلبه .. والدموع المحرقة تمزق خده .. لماذا لا أعرف حتى الآن .. لماذا أعيش الخوف عليك .. لماذا لم تخبريني وأنا أقرب الناس إليك في تلك اللحظات .. بصوته المبحوح .. المخنوق بكلماته الباكية .. لماذا أعيش الحرمان كل هذه الأيام تفكيراً بكِ؟.
وتنتهي المحادثة بالبكاء .. ليخيِّم عليه الليل بستائر الحزن .. ويعود يرافقه بعد أن عادت إليه الحياة .. يا رب ساعدني وهي تتعذب كل يوم .. وأنا أموت كل ساعة تمر عليها .. فخطرت له فكرة البحث عن متبرع .. أعلن في الجرائد الرسمية والمجلات .. لعل الأمل يشرق من جديد خلف تلك الغيوم وتعود لي أمل .. مرت أيام من نزول الإعلان .. ولم يتقدم أحد رغم المبلغ الكبير .. وهو يتألم وينتظر .. فلم يأت الخبر .. بعدها فقد الأمل .. وفشلت كل المحاولات .. فقرر بعدها أن يذهب هو للمستشفى ويجري الفحوصات اللازمة والتحاليل .. ذهب وهو فاقد الأمل .. محبط .. ويئن اليأس منه مثقل الخطوات .. تسابقه دموع الحرمان .. وفي غرفة الانتظار .. يحدث نفسه لو قدر الله وتوفت أمل .. ماذا ستكون عليه حياتي .. ماذا سأفعل بدونها .. تتصارع الأفكار اليائسة والمحبطة في رأسه .. ويبكي على حاله من اليتم بعدها .. يطول الانتظار وهو ينظر في دقائق الساعة المعلقة على الحائط .. وتمر الثواني عليه سنين .. في هذه اللحظات الصعيبة يسري بداخله شعور غريب ينبض بالوحدة والحرمان .. حبيبة العمر بجانبي تئن .. ولا أستطيع فعل شيء لها .. يا لها من مصيبة .. وفي غمرة الانتظار .. وحالات القلق .. وجنون الصبر .. يستدعيه الطبيب المعالج ...
- عبد الله .. أين أنت.
- يرد بصوته المبحوح الباكي .. نعم
- تفضل .. اجلس هنا ..
- فينظر الطبيب لعيونه ليرى حزن الدنيا وسهر الليالي .. وظلام المساء يخيم على ملامح وجهه.
- فيزف له خبر الشروق .. ويعلن له أن جميع الفحوصات متطابقة وليس هناك مانع من إجراء الزراعة .. وفي هذه اللحظة أشرقت الشمس .... في وجهه الحزين وتفجّرت العروق بدمائه الكامنة .. وتعود الحياة تبتسم من جديد .. ويزهر قلبه بالربيع وتحلق حوله الفراشات .. وتعود النوارس لواحاته .. وكأنه ملك الدنيا في هذه اللحظات فأخذ يقبِّل الطبيب وكل الحضور .. وتعلو وجهه سعادة الأيام الماضية .. وتورق الأوراق من أغصان الشجر.
- ويطلب من الطبيب أن لا يعلم أحد من هو المتبرع وخاصة أمل .. ولا تذكر اسمي لهم .. وبعد إلحاح شديد جداً ...
- ... هز الطبيب رأسه معلناً الموافقة.
- وفي صباح اليوم التالي أجريت عملية الزراعة بكل نجاح .. ولم تعرف أمل من هو المتبرع لها.
- مرت أيام .. يسمع أخبارها .. فزارها في غرفتها يحمل لها باقات من الورود .. استقبلته بالدموع .. ليرد عليها بابتسامة دامعة .. جلس بجانبها .. يطمئن على صحتها .. فذرفت من عينه دمعة متحجرة لما رأى حالتها تتحسن ويعود حبها له بعد كل هذه المعاناة.
- فسألته لماذا أرى في عينيك هذه الدمعة الحائرة .. وألمس في يديك برودة .. وأحس برعشة تفقدك توازنك؟ ..
- فاجأبها .. وفي صوته نغمات الحب والوفاء .. فقط لأنك أفضل اليوم من الأيام الماضية .. ليختم مقابلته لها بقبله صادقة على جبينها فانصرف .. والحيرة والخوف يرافقان تفكير أمل .. أبالرغم من كل ما فعلته به من صد وهجران يأتي اليوم ويزورني؟ ... لقد قسوت عليه جداً.
- ولم تعلم أنه هو من أنقذ حياتها .. وأعاد الابتسامة لها من جديد .. وأن جزءاً من جسمه يسكن جسمها ويتغذى بدمها .. فبعد أشهر قليلة .. زارها وأعلمها بالأمر .. وحكى لها من البداية .. ومن المتبرع لها ليكون هذا اليوم هو موعد ميلادهما من جديد .. ويعلنا موعد الزواج .. وتمحى اللحظات الحزينة والحرمان من أيامهما ويكونا سعداء معاً .. وتبدأ من اليوم الحياة وهما مع بعضهما.
أحمد القاضي |