صخب .. وضوضاء .. وأصوات مزعجة..
هذا يبكي يستجدي الحنان .. وذلك يلح عليها أن تجلس معه وتستمع لهمومه .. وهذه تريد إجابة على تساؤلاتها وتلك تريد حلاً لمشكلتها المعقدة .. وهذا يريد رأيها في المشاريع المستقبلية .. وذاك يعاتبها لإهمالها وتقصيرها معه .. وآخر يلومها على أخطائها تجاهه .. ترى .. من هي هذه التي تراكمت عليها كلُّ هذه المسئوليات؟!
ومن هم هؤلاء الذين أثقلوا كاهلها وحمّلوها مسؤولية رعايتهم والعناية بهم؟!
بالتأكيد ستقول إنّها الأم مع أولادها .. ولكن ستفاجأ حينما أقول لك: لا .. لست أعني الأم بقدر ما أعني تلك المسكينة .. الضعيفة .. التي حملت على عاتقها مهاماً جساماً .. من حيث تشعر أو لا تشعر .. ما أصعب مهمتها في هذه الحياة!
قد تدرك صعوبتهالا .. وقد لا تدركها فتضيع..
لكنها بالفعل مخلوقة عجيبة ..
أمدّها الله من القوى الكامنة ما يهيئها لتحمل ما عجزت مخلوقات عظيمة عن تحمله .. ورغم ذلك .. فهي ضعيفة إذا لم تهتد إلى مفاتيح هذه القوى..
والآن أيُّها القارئ هل أدركت من أعني؟
إنّها نفسك التي بين جنبيك .. ولكن .. من هؤلاء الذين يتعلّقون بها من كلِّ جانب ولا يفتؤون عن مطالبتها ومنازعتها .. كلٌّ من جهته .. إنّهم حقوقها وواجباتها وأفكارها .. بل .. وحاجاتها الروحية والعاطفية والعقلية .. وهذا هو سر الضوضاء والصخب الذي تجده في داخلك في بعض الأوقات .. بل هو سر الفوضى التي قد تجدها في حياتك في كثير من الأحيان .. قد لا تشعر بذلك الصخب في داخلك ولا تبدو لك الفوضى في حياتك .. لا لغيابها .. ولكن لغياب وعيك في غياهب دنياك .. مسكينة هي تلك النفس .. نركض ونلهث خلف دنيانا ومشاغلنا الروتينية ونحن نظن أننا قد أرضيناها بينما لو حانت منا التفاتة إليها لوجدناها قابعة في أعماقنا تبكي بصمت وقد نجدها تئن أنين المريض .. كثيراً ما يقسو الإنسان على نفسه .. قد يظلمها .. قد ينساها .. قد يتركها تسترسل مع هواها .. أو قد يجحف بحقها فلا يترك لها أدنى فرصة لترتوي من الحياة..
إنّها تريد من يجلس إليها .. يفهمها .. يتلمّس حوائجها .. يكاشفها .. يصارحها .. يصدقها .. يقوِّمها .. يوضح لها غايتها .. يذكِّرها بها بين حين وآخر .. يمهِّد لها الطريق إلى تلك الغاية وكلّما انسد طريق رسم لها آخر .. يضخ الأمل في جنباتها .. ينشر النور بين أرجائها .. يغذي روحها بما يناسبها .. وعقلها بما يناسبه تماما كما يغذي جسدها بما يناسبه .. فالروح تجوع وتظمأ وتحتاج إلى دواء .. تحتاج إلى غذاء ولكن لا كالجسد.
فالجسد مادة خلق من الأرض فقوامه من الأرض أما الروح فحياتها وقوامها بنور الله الذي يتمثل بالوحي .. { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا}.
فالوحي حياة تحيا به الأرواح كما تحيا الأرض بالمطر ..
كذلك العقل يحتاج أيضاً إلى غذاء بالعلم والمعرفة التي تنير طريقها .. وبالخبرات التي تكتسبها من حياتها وتجاربها .. بالتفكُّر فيما حولها .. بالنظر فيما تؤول إليه الأمور .. كي تنمو هذه النفس وتشرق بل وتبدع وتتألّق وتصبح شلالاً من العطاء ينعم به كلُّ من حولها..
والآن هل أدركت أيّها القارئ كم أنت بحاجة إلى تعاهد هذه المخلوقة التي بين جنبيك؟
|