لقد وقعت حادثة منكرة قبل أيام، قام بها بعض الجهلة، وهي الاعتداء على رجال الأمن، حيث قُتل منهم خمسة وهم يؤدون عملهم في حفظ الأمن. ولا شك أن هذا العمل منكر ومحرم بأدلة شرعية مشهورة ومعروفة. إننا إذا رأينا أين وقعت تلك الحوادث؟ نجدها قد وقعت في بلد آمن يحكم شرع الله تعالى في شؤونه، ومَن الذي قُتل غدرا وظلما؟ إنهم عدد من رجال الأمن الذين يبذلون الغالي والنفيس لحفظ الأرواح والأموال ويسعون جاهدين لمكافحة الجريمة واستتباب الأمن.. أهكذا يعاملون؟ وهكذا يُشكرون؟. إننا بالرجوع إلى ما جاء في الكتاب والسنة من آيات وأحاديث نجد أن هذا العمل من كبائر الذنوب، وقد توعد الله تعالى مرتكبه بعقوبات عظيمة منها:
أولا: قال الله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (النساء:93). فتأمل هذه العقوبات التي ذكرها الله جل جلاله (خلود في جهنم - وغضب الجبار عليه - ولعنه له - والعذاب العظيم). إن هذه العقوبات لا تكاد تجدها مجتمعة في ذنب واحد، فكيف وقد توعد الله تعالى مَنْ قتل مؤمنا متعمدا بها؛ لذا ذهب ابن عباس - رضي الله عنه - إلى أن القاتل عمدا لا توبة له، فعن سالم بن أبي الجعد قال: سئل ابن عباس عن قاتل مؤمن متعمدا؟ قال (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ) الآية، قيل له: أرأيت له إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: أنى له الهدى وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدا يجيء يوم القيامة حاملا رأسه بإحدى يديه يلزم صاحبه باليد الأخرى تشخب أوداجه في قبل عرش الرحمن جل وعز يقول سل هذا فيم قتلني) والذي نفسي بيده لقد نزلت وما نسخها من آية حتى قبض نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل بعدها من برهان. رواه أحمد 1 /240 والنسائي (3999) وعبد بن حميد (680) واللفظ له.
ثانيا: قال تعالى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} (الفرقان:69).
ثالثا: أن قتل المسلم من الموبقات والمهلكات، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال (الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) رواه البخاري (2615) ومسلم (89).
رابعا: أن من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا: قال تعالى {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} (المائدة:32).
خامسا: زوال الدنيا عند الله تعالى أهون من قتل المسلم فعن عبدالله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم) رواه النسائي (3987) وابن ماجه. قال البوصيري: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. ا.هـ مصباح الزجاجة (933) وحسنه المنذري في الترغيب والترهيب 3 /201. فتصور أخي الكريم زوال الدنيا كلها وأهون وأيسر من قتل مسلم واحد.. ألا تدرك معي عظم هذا الذنب. قال ابن العربي رحمه الله تعالى (ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك فكيف بقتل الآدمي فكيف بالمسلم فكيف بالتقي الصالح) ا.هـ فتح الباري 12/189فيض القدير 4/506. بل جاء في رواية البراء بن عازب - رضي الله عنه - (لزوال الدنيا أهونُ على الله من قتل مؤمن بغير حق، ولو أنَّ أهلَ سماواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله النار) رواه الأصبهاني (صحيح الترغيب والترهيب 1 /629).
سادسا: لعظم هذا الذنب فإنه أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة فيما يتعلق بحقوق العباد فعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء) رواه البخاري (6471) ومسلم (1678).
سابعا: أنه لا يقدم على هذا العمل مَنْ وقر الإيمان في قلبه فعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (من حمل علينا السلاح فليس منا) رواه البخاري (6480)، فهذا الوعيد لمن حمل السلاح فكيف بمن باشر القتل؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى: وكذلك قوله (من غشنا فليس منا ومن حمل علينا السلاح فليس منا) كله من هذا الباب لا يقوله إلا لمن ترك ما أوجب الله عليه أو فعل ما حرمه الله ورسوله فيكون قد ترك من الإيمان المفروض عليه ما ينفي عنه الاسم لأجله، فلا يكون من المؤمنين المستحقين للوعد السالمين من الوعيد. ا.هـ مجموع الفتاوى 7 /41.
ثامناً: أن مَنْ وقع في ذلك فقد ضيّق على نفسه رحمة الله تعالى فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما) رواه البخاري (6469) قال ابن العربي - رحمه الله تعالى - (الفسحة في الدين سعة الأعمال الصالحة حتى إذا جاء القتل ضاقت لأنها لا تفي بوزره، والفسحة في الذنب قبوله الغفران بالتوبة حتى إذا جاء القتل ارتفع القبول) ا.هـ. فتح الباري 188/12 وعن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: (إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله) رواه البخاري (6470)، والورطات (جمع وَرْطة بسكون الراء وهي الهلاك يقال وقع فلان في ورطة أي في شيء لا ينجو منه). فتح الباري 188/12.
تاسعا: أن حرمة المسلم أعظم عند الله من حرمة الكعبة. عباد الله.. لا يخفى على أحد من المسلمين حرمة الكعبة المشرفة، أتدري أن حرمة دم المسلم عند الله أعظم من حرمتها، فلو رأينا رجلا يهم بهدم الكعبة لقامت قيامتنا غيرةً على بيت الله الحرام، فكيف ونحن نرى مَنْ يقتل أبناء المسلمين؟ فقد نظر ابن عمر - رضي الله عنه - يوماً إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) رواه الترمذي (2032) وحسنه.
عاشرا: أن الكافر في أرض المعركة إذا نطق بالشهادة حرم قتله مع أن ظاهره إنما نطق بها خوفا من القتل: عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال (يا أسامة أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله)، قلت: كان متعوذاً، فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم. رواه البخاري (4021) ومسلم (96)، وفي لفظ لمسلم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أقال لا إله إلا الله وقتلته)؟ قال: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح. قال: (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا) قال النووي - رحمه الله تعالى - (فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر) ا.هـ. شرح مسلم 107/2. ومما جاء في قرار لهيئة كبار العلماء تعليقا على هذا الحديث: (وهذا يدل أعظم الدلالة على حرمة الدماء، فهذا رجل مشرك، وهم مجاهدون في ساحة القتال، لما ظفروا به وتمكنوا منه، نطق بالتوحيد، فتأول أسامة - رضي الله عنه - قتله على انه ما قالها إلا ليكفوا عن قتله، ولم يقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - عذره وتأويله، وهذا من أعظم ما يدل على حرمة دماء المسلمين وعظيم جرم من يتعرض لها) ا.هـ.
أما ما يتعلق بحكم إيواء المحدثين فاسمع أخي الكريم للحديث الذي رواه أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لعن الله من آوى محدثا) رواه مسلم (1978)، وعنه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (المدينة حرم ما بين عائر إلى كذا من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يُقبل منه صرف ولا عدل) رواه البخاري (1771). قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - (وفيه أن المحدث والمؤوي للمحدث في الإثم سواء والمراد بالحدث والمحدث الظلم والظالم على ما قيل أو ما هو أعم من ذلك) ا.هـ فتح الباري 4 /84 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - (ومن آوى محاربا أو سارقا أو قاتلا ونحوهم ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى أو لآدمي ومنعه ممن يستوفي منه الواجب بلا عدوان فهو شريكه في الجرم وقد لعنه الله ورسوله. روى مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا) وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث فإنه يطلب منه إحضاره أو الإعلام به، فإن امتنع عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث، كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب فما وجب حضوره من النفوس والأموال يعاقب من منع حضورها، ولو كان رجل يعرف مكان المال المطلوب بحق أو الرجل المطلوب بحق وهو الذي يمنعه فإنه يجب عليه الإعلام به والدلالة عليه ولا يجوز كتمانه؛ فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى وذلك واجب بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل فإنه لا يحل الإعلام به لأنه من التعاون على الإثم والعدوان بل يجب الدفع عنه لأن نصر المظلوم واجب) ا.هـ السياسة الشرعية /67 مجموع الفتاوى 28 /323. لذا الحذر الحذر من إيواء المحدثين، بل الواجب نصحهم وإرشادهم ودلالتهم إلى الطريق المستقيم، ومن تلبَّس بشيء من ذلك فالواجب عليه تسليم نفسه لولاة الأمر، وليعلم أن ذلك خير له من التمادي في الباطل، فالرجوع إلى الخير خير وأبقى، فلعل الله تعالى أن يكرمه بتوبة نصوح تكفر عنه ما اقترفت يداه قال تعالى {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الفرقان:70).
وأختم بأمر مهم وهو أن بعض الغيورين - وفقهم الله تعالى - يظنون أن من حقهم إقامة الحدود سواء بالقتل أو غيره.. ولا شك أن هذا مخالف لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي قصة حاطب - رضي الله عنه - عندما خاطب أهل مكة يخبرهم بخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحربهم وهذا بلا شك ظاهره خيانة لله ورسوله حتى قال عمر - رضي الله عنه - (يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق) فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم (إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) رواه البخاري (2845) ومسلم (2494)، فهنا نلاحظ أن عمر - رضي الله عنه - قد استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتله ولم يبادر إلى تطبيق الحكم الشرعي الذي ظنه وهو قتل المرتد، ما يدل على أن إقامة الحدود منوط بولي الأمر لكونه أعلم بشروط إقامتها وانتفاء الموانع ولا أعلم حادثة واحدة قام فيها صحابي بقتل رجل دون إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع وجود المنافقين في عهده، وقد نزلت فيهم آيات كثيرة وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بن اليمان بأسمائهم، ولو أن إقامة الحدود منوطة بعامة الناس لقتل بعضهم بعضا، وكل مَن وقع بينه وبين أحد خصومة أو نزاع بادر بقتله مدعيا أنه رأى المقتول مرتكبا لما يوجب قتله من سب أو استهزاء أو زنا وغيرها من موجبات القتل، ولانتشر بسبب ذلك الخوف والقتل وانعدم الأمن الذي حفظه من مقاصد الشريعة.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين، اللهم آمنا في دورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أراد بلادنا أو بلاد المسلمين بسوء فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره، اللهم وتقبل من قضى من رجال الأمن شهداء واغفر لهم وارحمهم واخلف على ذويهم خيرا منهم، اللهم ورد ضال المسلمين إليك ردا جميلا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (الصافات:182).
|