Monday 2nd January,200612149العددالأثنين 2 ,ذو الحجة 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في"متابعة "

نحو استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة الإرهاب في المملكة العربية السعودية «2-5» نحو استراتيجية وطنية شاملة لمكافحة الإرهاب في المملكة العربية السعودية «2-5»
عرض وتحليل: د. يوسف بن أحمد العثيمين - أ كاديمي وباحث اجتماعي سعودي :

(ثانياً): جاذبية الإرهاب في المجتمع السعودي: إن قراءة سوسيولوجية فاحصة لما حدث ويحدث من إرهاب في المملكة تدعو إلى الجزم بثقة بأن ظاهرة الإرهاب في المملكة ليست ظاهرة عابرة وافدة طارئة، وبالتالي، يمكن التعامل معها بإجراءات سطحية عاجلة، بل هي ظاهرة تُغذيها جذور متمددة في الفكر والثقافة والمجتمع، وجدتْ السياق المحلي والإقليمي والدولي الملائم لنموها وتغذيتها، ومن هنا، فإن القناعة التي بدأت تتولد لدى بعض الجهات الرسمية، أو لدى بعض الأوساط الفكرية التي تنظر للدولة، بأن ما يحدث من إرهاب هو فعل منحرف نتاج فكر منحرف، يمكن معالجته عبر استراتيجية تقوم على (المحاورة) مع الإرهابيين، و(التوعية) مع المتعاطفين في المجتمع، لن يقضي على الظاهرة.. هذه (الاستراتيجية الفكرية) لن يُكتب لها النجاح المتوقع، أولاً، لأن الإرهابيين لا يعتقدون، أصلاً، أنهم على ضلال، ولعل هذا ما يفسر ضعف الاستجابة لدعوة خادم الحرمين الشريفين للضالين بالاستسلام مقابل العفو.. ثانياً، أن النسق الفكري للضال عملية فكرية اجتماعية نفسية تراكمية ومعقدة، لا يمكن تفتيتها بجلسات حوار عابرة.. ثالثاً، وهو الأهم، أن هذه الاستراتيجية الفكرية القائمة على الحوار قد تعالج الحالات الفردية، وقد تعالج بعض أعراض الظاهرة، ولكنها لا تنفذ إلى العمق وتجتث الجذور، ولا تعالج الاختلالات الفكرية والاجتماعية والثقافية التي شجعت ظهور هذا الفكر، وسمحت له بالاستمرار والنمو، وجعلته جذاباً في أعين الشباب وقلوبهم وعقولهم والمتعاطفين في المجتمع السعودي، منذ البداية. إن (الخطر الحقيقي) الذي تواجهه الدولة السعودية، على خلاف المجتمعات الأخرى التي تعرضت لحوادث الارهاب، هو موضوع وجود دوائر واسعة للتعاطف، مع الفئة الضالة من قبل شرائح مختلفة من المواطنين، فهذه الدوائر هي التي تمد الساحة بالإرهابيين، وهي التي توفر الغطاء اللوجستي والعاطفي لهم.. نعم، الإرهاب ظاهرة موجودة في جميع المجتمعات والدول والديانات، ولكن الفرق أنها لدى غيرنا عبارة عن دوائر محدودة وصغيرة، وحالات منعزلة تعيش على هامش المجتمع وحواشيه يميناً ويساراً، ولا تُغذيها جذور فكرية واجتماعية محلية، ذات أُسس دينية وثقافية راسخة، وذات جماهيرية وشعبية واسعة في الداخل.. وهنا، بالذات، مربط الفرس، ومكمن الداء، ومنطلق العلاج.. والواضح أن أمام الدولة سؤالين محوريين، وحزم من الأسئلة الفرعية، ينبغي أن تنطلق من إجابتهما جميع الجهود والاستراتيجيات الرسمية، وغير الرسمية، لمكافحة الإرهاب، إذا أردنا أن نقضي، فعلاً، على جذور الإرهاب في الداخل، ونُجفف منابعه، ونُضعف مناخاته التي تُغذيه وتُجدده.. وتُعيد إنتاجه في المجتمع السعودي.. هذان السؤالان هما:
أولاً: ما هي تلك الجاذبية، التي لا تُنْكَر، في الخطاب التكفيري الجهادي الذي تتبناه الجماعات المتطرفة والإرهابية؟ وما هي، تحديداً، تلك العناصر، في هذا الخطاب، التي تجذب الشباب إليه؟ ثم لماذا ينجذب الشباب، تحديداً، إلى هذا الفكر ؟ ولماذا يُسحرون به؟! وكيف يتم جذبهم إليه؟ وما هي السُبل المستخدمة لتقديمهم إليه، وتعريفهم به؟ ثم ما الوسائل والسُبل والسياسات التي يمكن تبنيها (لإضعاف) جاذبية هذه الأيديولوجية الفكرية في نفوس الشباب وعقولهم ووجداناتهم؟. لقد تأمل الناس بذهول صورة الشاب المصري الذي قام بالعملية الإرهابية في حي الأزهر، بملامحه الطفولية البريئة، التي لا تختلف عن ملامح الملايين من الشباب في مثل سنه، ممن يشاهدون الفضائيات و (برتقالاتها)، ويعجبون بمشاهد (الفيديو كليب)، ويعبثون ب(البلوتوث)، ويتنافسون على التصويت في مسابقات (ستار أكاديمي).. والسؤال الذي يشغل المتخصص والمهتم هو: كيف تسللت هذه القسوة إلى قلب هذا الطفل، فهانت عليه حياته وحياة الآخرين؟!.. ومن أين أتى بالقلب الذي يستطيع دون اكتراث، وبكل برود، أن يتخذ قرار التفجير وسط أُناس أبرياء يتجولون على أقدامهم في أمان؟.. ولا يوجد، فيما نُشر عن شخصية الإرهابي الطفل، ولا في ظروفه الاجتماعية والأسرية، ولا فيما ذُكر من تحليلات عن الدوافع التي عادة تدفع لذلك : أمريكا، إسرائيل، تخاذل النظام العربي، الفساد،وقراءة الأفكار الجهادية المتشددة على الانترنت.. لا يُوجد في ذلك كله تفسير كاف لما فعله، ليس فقط لأن المدارك العقلية لهذا الإرهابي (الطفل) (أعجز) من أن تعي شيئاً من ذلك، على نحو يدفعه للقيام بعمل على هذا المستوى من القسوة والوحشية، خاصة أن تفوقه المتواصل في الدراسة يكشف عن أنه ينتمي إلى هذا النمط من الطلاب الذين لا يهتمون بشيء خارج الكتب المدرسية، ولكن كذلك، لأن آخرين في مثل سنه، وأكبر منه تعرضوا للتأثيرات نفسها، لكنهم لم يفعلوا ما فعل. لقد قدم الكاتب صلاح عيسى مساراً معبراً يعكس حقيقة تخلق شخصية الإرهابي في نفس هذا الطفل وعقله، حيث يذكر أن قصة هذا الطفل تذكر بفيلم عن (أسامة بن لادن)، صور له قبل أحداث 11 سبتمبر 2001م، يتحدث فيه إلى عدد من معاونيه في أفغانستان، وقد رسم بعصاه على الأرض الرملية مستطيلاً قسمه إلى ثلاثة أقسام، قال إنها تُمثل مراحل عمر الإنسان، فالأولى منها، هي مرحلة الطفولة حتى سن الخامسة عشرة، التي لا يهتم فيها بشيء خارج ذاته، وتبدأ الثالثة منها بعد سن الخامسة والعشرين، وهي مرحلة الشباب التي يتجه الإنسان فيها نحو الاستقرار في عمل وتكوين أسرة، والتخطيط للمستقبل والتواؤم مع الواقع، وبين الاثنتين تقع المرحلة العمرية، بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، التي (لو استطعنا) كما يقول ابن لادن أن نجتذب الفرد إلينا خلالها، (لضمنا بقاءه في صفوفنا إلى آخر العمر).. وهذا ما يؤكده علماء النفس، فالمرحلة بين سن الخامسة عشرة والخامسة والعشرين، هي مرحلة المراهقة المتأخرة وصدر الشباب، التي يتفتح فيها الإنسان للحياة، ويكتشف أن له ذاتاً مستقلة عن ذوات الآخرين، فيتجه للتمرد على سلطة الوالدين والمدرسين والمجتمع كمظهر من مظاهر التمايز، وهي فضلاً عن ذلك، المرحلة التي يتجه فيها الإنسان نحو تكوين المثل الأعلى، ليكون بديلاً عن المثل العليا السائدة في أسرته ومجتمعه.. ولأن ثقافة مثل هذا المتمرد الصغير تكون عادة ضحلة، حين يكتشف، فجأة، أن له كياناً مستقلاً عن غيره، يصبح (صيداً) سهلاً لكل من يعبث بخصائص هذه السن الحرجة، فيقنعه بأن الحياة لا معنى لها ما لم ينضم إلى جيش الخلاص، الذي سيطهر الأرض من الكفر والكفار، ومن الجور والفساد، ومن ثم سيملؤها هو وأمثاله عدلاً وإنصافاً وإسلاماً.. ومن اليسير على هؤلاء الصيادين أن يجدوا عشرات الشواهد، في البيئة المحلية والإقليمية والدولية، لإقناع مراهق لم يتعرف على الدنيا بعد، ويفتقد النضج الانفعالي والعقل النقدي الذي يستطيع أن يقارن ويحلل ويبحث عن البدائل، ويسترجع الشواهد التاريخية، بأن الدنيا قد فسدت، وأنه مدعو لإصلاحها.. وهم يفعلون ذلك عبر برامج إغرائية وتربوية وإعلامية ودعوية مخططة ومدروسة، تبدأ باستثمار تمرده بحكم السن على السلطة الوالدية لإقناعه بأنه يعيش في بيت كافر، من أجل ضمان أن يتحرر من تأثير سلطة الوالدين عليه، ليحلوا محلها في ممارسة هذه السلطة الأبوية، ومن أجل ضمان تحطيم الروابط العاطفية شبه الغريزية التي تربط الابن بأسرته ووالديه، وبذلك يكون جاهزاً نفسياً، لكي يمارس ضد الآخرين أشكالاً من القسوة التي تتنافى مع فطرته الإنسانية.. ثم إنهم يسعون، بعد ذلك، لتغذية غروره الطبيعي، بإقناعه بأنه أفضل من الآخرين: فهو مؤمن، والآخرون كفرة، وهو على خلق، والآخرون بلا أخلاق، وهو يسعى للآخرة، والآخرون يسعون للدنيا، ومهما كان علمهم أو فضلهم، فلا قيمة لهم، إذا ما قُورنوا ب(مرابطٍ) على ثغر من ثغور الدين مثله، وبالتالي، فمن حقه أن يتعالى عليهم، وأن ينظر إليهم من أرنبة أنفه، وألا يسمع لأحد كلاماً، أو يأخذ عنه علماً، حتى لو كان من العلماء الشرعيين الراسخين (ابن باز، ابن عثيمين - رحمهما الله -)؛ لأنه لا يأخذ الدين إلا عن مشايخه المعتمدين الذين أخذوا عليه البيعة.. ومن البديهي أن تكون هناك ظروف عامة تيسر على هؤلاء الصائدين مهمتهم، مثل احتلال أفعانستان والعراق وفلسطين، وأن تكون هناك ظروف شخصية، كتلك التي أحاطت بالطفل الإرهابي الذي قام بعملية الأزهر، من بينها يُتمه المبكر، وانطوائيته، وفقره المدقع، لكن العامل الرئيسي، يظل مرتبطاً بتلك الاستراتيجية التجنيدية الإغرائية، التي يتلقاها.. وهنا مصدر القلق، أننا، أولاً، لم نصل في تحليلاتنا الاجتماعية إلى مهد الظاهرة، وهي الفئة العريضة من المتعاطفين،والتي يقوم بعض أفرادها بالتنشئة الاجتماعية لهؤلاء الأطفال، مُمهدين السبيل لسهولة الإقناع، أو بالتجنيد والتجييش، وبالشحن العاطفي والنفسي، وغسيل الأدمغة، ليل نهار، وأمام مرأى ومسمع من الدولة، وثانياً، وهو الأهم، لم نسع جدياً، وبطريقة علمية، إلى التعرف على الأساس الفكري والاجتماعي الذي يُنتج هذه الشرائح الواسعة في المجتمع، وبالتالي، لا نتوفر، حتى الآن، على استراتيجية تتضمن وسائل مضادة، تحول دون أن يتحول طفل إلى إرهابي، يملك القدرة على تدمير حياته وحياة الآخرين بقسوة، هكذا بكل برود، ودون تردد!. لقد نجح الخطاب المتشدد في جذب انتباه الشباب وشدهم إليه لأنه (الوحيد) في الساحة، إذ لم يجد الشاب أمامه خطاباً دعوياً جذاباً، صادراً من المؤسسة الدينية التقليدية، يقدم له إجابات شافية، متوازنة راشدة، تهديه لموقعه في الكون والحياة، ويكون أكثر استجابة لحيرته في المسائل الكبرى التي تواجهه كشاب سعودي، يدلف على أعتاب الألفية الثالثة! في حين كان الخطاب الديني للقيادات الدينية الشبابية الدعوية المتشددة سريعاً ومبادراً في إعطاء هؤلاء الشباب ما يُعينهم على فهم ما يدور حولهم من أحداث، فذاع صيتهم على حساب المرجعيات الدينية التقليدية، التي بقي خطابها محصوراً في قضايا التحليل والتحريم، وقليلاً ما يتطرق لقضايا اجتماعية وسياسية كبرى، ما أفقد تلك المرجعيات الدينية قدرتها التوجيهية على الشباب، حتى شعبيتها المعتادة، وتوارت عن الأنظار.
ثانياً: السؤال الثاني: ما الذي يجعل غير الإرهابي الفعلي، أي المواطن العادي البسيط، يتعاطف، أو يتسامح، أو لا يكترث مع ما حدث ويحدث من إرهاب في وطنه؟.
يكاد ينعقد الإجماع بين المراقبين على أن ظاهرة الإرهاب في المملكة تتشكل من ثلاث دوائر رئيسية: أولها، الفئة التي جندت نفسها للقتل والتخريب المباشر، وقَسمتْ نفسها بين منتحر ومرشد ومفتٍ.. هذه الفئة ثبت أنها دخلت إلى نفق لا يمكنها الرجوع منه، حتى وإن تمت مناقشتها فكرياً، وهذا ما ثبت من خلال سيرة بعضهم التي أُعلن عنها، حيث تعرض الكثير منهم للحوار المباشر مع بعض العلماء والواعظين، وأعلن الكثير منهم توبتهم، وتعهدوا بأنهم لن يعودوا، ولكنهم بمجرد إطلاق سراحهم عادوا، وهذه الفئة مُختفية عن الأنظار بشكل دائم، ولكنها على اتصال بالمجتمع من خلال الداعمين والمتعاطفين، وعبر الشبكة العنكبوتية التي تبث أفكارهم وآراءهم عبر ما يُسمى (الجهاد الإلكتروني). وأعداد هؤلاء تقدرها بعض المصادر ببضعة آلاف، وهي بهذا المعنى محدودة جداً. الدائرة الثانية: هم أولئك الذين وفروا دعماً وغطاءً للكثيرين من الإرهابيين سواء بالتستر، أو المساندة غير المباشرة، وهؤلاء يصعب كشفهم إلا إذا وقعوا بأيدي رجال الأمن، وهذه الفئة غالباً ليست لديها تجربة تدريبية أو عسكرية، ولكنها صاحبة تجربة فكرية تجعلها تقدم التأييد بجميع أشكاله، وتتطلع إلى خوض تجربة التفجير والانتحار، عندما تأتي الفرص المواتية، أو عند الضرورة، وهي ما تُسمى أحياناً بالخلايا النائمة، وهي أكثر من سابقتها عدداً، وتعمل من خلال المجتمع، ولا تختفي عن الأنظار، وإنما تعيش حياة عادية في وسط البيئات الاجتماعية. الدائرة الثالثة: فئات اجتماعية متباينة ومنتشرة، تختلط عليها الرؤى والأمور والمواقف، فهي ترى هذه الفئات بعدسة مختلفة، ولكن أغلبها يميل إلى التأييد والتعاطف، اعتماداً على الصورة النمطية الدينية المألوفة التي يظهر بها هؤلاء الشباب أمام الناس، بالإضافة إلى أنها تتعاطف مع الشعارات التي يرفعها الإرهابيون والتي تتمثل في العداء للدول (الكافرة)، وأنهم سيحرِرون المسجد الأقصى وبلاد الحرمين، بعدائهم لأمريكا ومن يقيم علاقات معها، بالإضافة إلى تأثرهم بالرسائل الجهادية المتكررة بتطهير المجتمع، وإعادته مجتمعاً نقياً نظيفاً طاهراً، بصورة خيالية (تُغري) الكثير من بسطاء الناس، الذين لا يدركون الواقع وأبعاده وتعقيداته.. هذا فضلاً عن لعبهم على وتر تضخيم أخطاء الدولة والقصور في خدماتها.. هذه الفئة هي أكبر الدوائر عدداً، وينتمي إليها السواد الأعظم من بسطاء الناس، وهي الشريحة التي يتم فيها ومنها التنشئة والتعبئة والتجييش والتجنيد، وتستقبل الشحنات التعبوية التي يُطلقها الخطاب الديني المتشدد، وتتأثر بهذه الشحنات بمقادير مختلفة.. هذه الدوائر هي التي خرج منها، أو خرجت لنا، قوائم ال(26) إرهابياً، والتي تلتها، ولا تزال تخرج المزيد من الإرهابيين، وهي بذلك تمثل (الشريحة الأخطر)، والحاضن الأوسع للأيديولوجيا الإرهابية، حتى لو لم يصدر منها أفعال وتصرفات إرهابية مباشرة؛ لأنها تمثل الوعاء الاجتماعي والمناخ الفكري الحامل لفيروس الإرهاب، تقبلاً وغطاءً ونشراً. وهنا، يأتي السؤال الكبير الذي لا بد من مواجهته:ما هذا الغطاء الفكري، وذلك الفراش الاجتماعي، اللذان تستقر بينهما هذه الشرائح، التي يعبث في شرايينها مصل الإرهاب، وإن كانت لا تمارسه فعلاً؟ وما الذي يمكن عمله من أجل إعادة هندسة هذه الشرائح حتى لا يتقبل جسمها هذا المصل، مرة أخرى؟. هذه الشرائح العريضة من المجتمع السعودي تتعرض باستمرار إلى خطاب ديني ووعظي ودعوي متشدد، وعلى مدار الساعة، ومن مصادر مختلفة، سواء من الداخل أو من الخارج.. وتدور محاور هذا الخطاب على: فساد الأرض، تكفير المجتمعات والحكام، القتال هو الوسيلة الأساسية للتغيير، الفهم المتشدد للولاء والبراء، تمجيد فضيلة الجهاد والحث على استعادة أمجاد الماضي التليد عبره، وأن حروب المسلمين هي حروب صراع مع الأديان الأخرى، ترسيخ أحادية المنهج، نبرة الإقصاء، كُره المخالف، تضخيم الذات وانتصارات الماضي، وأن المسلمين هم الأحق في قيادة العالم حضارياً في (كل الأزمان)، والمطالبة بالتعامل مع العالم وفق منهجنا الخاص بنا، وتقييم العالم من خلال رؤيتنا الخاصة، وأننا سوف نُجبر العالم على الاستماع لنا لمجرد أننا مسلمون.. ولما لم يتحقق لنا ما نريد من نصر عظيم قيل لبسطاء الناس عبر المنابر والمحابر إن هذا ابتلاء، وأن رفع هذا الابتلاء يتم عبر فرض منهج أكثر تشدداً في العبادات الظاهرية، فدعوا إلى المزيد من التشدد في العبادات الظاهرية ومتطلباتها.. مع أن التقصير الحقيقي هو في عجزنا عن ملاحقة الحضارة الإنسانية بجميع منجزاتها ومعطياتها.. ومن هنا اُخترعت مصطلحات (الصحوة) وغيرها لتصور للبسطاء من الناس أنهم قادرون بوسائل بدائية على القضاء على الحضارة الغربية بمجرد تمسك المسلمين (بالمبالغة) بالعبادات الظاهرة، أو سلوك الطريق الأسهل للتخلص من الفشل الحضاري عن طريق ممارسة الانتحار المباشر، أملاً بالوعد بالنصر والتمكين من الله.. وصاحَب هذه الرسائل السياسية والفكرية التعبوية، أيضاً، رسائل اجتماعية متشددة، تتعلق بتسويق النمط الأمثل للحياة الاجتماعية والعلاقات مع الناس، والممارسة الطهورية للحياة اليومية للمواطن البسيط، حتى في أدق التفاصيل.. ويتم توجيه هذه الرسائل، عبر مؤسسات المجتمع الدعوية والتربوية والثقافية والإعلامية، إلى مجتمع فيه، أصلاً، قدر من الانغلاق الاجتماعي والحذر من الآخرين، والتوجس من الانفتاح على العالم، خوفاً من تأثير عاداتهم وتقاليدهم وممارستهم اليومية وأساليب حياتهم عليه.. نتاج ذلك كله، ببُعديه، الفكري والاجتماعي، تخلق وَسَط، وأصبح له جاذبية، مع مرور الزمن، هذا الغطاء الفكري والأرضية الاجتماعية المناسبة له، الذي تعيشه هذه الشرائح التي تمثل السواد الأعظم من المجتمع السعودي.. مُهيئة بذلك الأرضية الخصبة، وفي الوقت والظرف المناسبين، لتفريخ نسبة معينة من الإرهابيين، ونسبة أكبر من المتعاطفين.. ثم أصبح هناك دول ومؤسسات وجمعيات وجماعات وأفراد يعيشون و(يرتزقون) على هذا الفكر، وعلى هذا النمط من الحياة المتشددة، وبالتالي، ضمنوا إعادة إنتاجه واستمراره وحمايته، واستمرار تأثيره وجاذبيته في المجتمع.. وجاءت أحداث (11-9) لتظهر السوءة، وتظهر هذه الأفكار المختبئة التي كانت تنخر في جسد الأمة.. لقد كشفت أحداث سبتمبر أننا كنا في قمة من التشدد، ما أحرجنا أمام العالم، وهذا ما دعا العقلاء في مجتمعنا، والمفكرين الإسلاميين والساسة إلى الدعوة للبحث عن وسائل للقضاء على مظاهر التشدد، والعودة إلى سماحة الإسلام، للقضاء على الإرهاب في الداخل، وإعادة قبولنا في المجتمع الدولي، في الخارج. إن فهم هذا المناخ الفكري المتشدد والبيئة الاجتماعية المتوجسة التي تسنده، ووضعه في دائرة الضوء والتحليل، مع ما قد يُغذي ذلك من روافد صغيرة في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية كمظاهر القصور، أو التقصير، في بعض خدمات الدولة وبرامجها، خاصة المتعلقة بمعيشة الناس وحياتهم اليومية، وفي ظل غياب خطاب ديني وسطي جذاب، يلامس قضايا الناس المعاصرة، هو (المدخل النظري المناسب) لفهم الظاهرة، والنفاذ إلى جذورها، واقتراح سُبل معالجتها، وينبغي أن يقع هذا التصور في قلب أي استراتيجية يُراد لها النجاح في القضاء على الإرهاب، واجتثاثه من جذوره الحقيقية في المجتمع السعودي، بعيداً عن الركون إلى استراتيجيات (حوارية) تعالج حالات فردية، أو (توعوية) تعالج عوارض المرض، فقط بعد ظهوره، أو تفسيرات مُفرطة في الأكاديمية، كالتفسيرات السياسية (غياب الديموقراطية)، أو الاجتماعية (الفقر)، أو النفسية (الإحباط).. فالكويت التي لا تعاني قوائم البطالة، ولا ظواهر الفقر المدقع، ولا حالات الكبت الاجتماعي، ولا غياب الديموقراطية، ومع ذلك سجلت حوادث عنف تُنبئ ب(قاعدة) في أراضيها.. وإن كانت الأرضية في الكويت ليست مهيأة مثل السعودية ل (غياب) الشرائح الواسعة من (المتعاطفين)، كما هو الحال في السعودية.. وهنا (الفرق) الكبير الذي يجب أن نتوقف عنده، ونسأل لماذا؟.. إن من الأهمية بمكان أن ننظر إلى الشباب الجهادي التكفيري باعتبارهم مرضى وضحايا، مثل ما أصبحنا ننظر أخيراً إلى المدمنين باعتبارهم مرضى وضحايا، وأوجدنا المصحات المتخصصة لعلاجهم.. هؤلاء الشباب الجهاديون التكفيريون أيضاً ضحايا فكر متشدد وأدلجة أصولية، وبالتالي، علينا أن (نحاور) أنفسنا، أولاً، كدولة ومجتمع قبل أن نحاور الإرهابيين، ونسأل الأسئلة الصعبة: ماذا حصل؟ وكيف حصل ما حصل؟ ومتى حصل؟ ولماذا حصل ما حصل؟ ومن المسؤول عما حصل؟ وما الذي أوصلنا إلى ما وصلنا إليه؟.. باختصار، علينا البحث عن الجذور والمناخات والعوامل التي أنتجت، وما زالت تنتج، قوائم الإرهابيين وشرائح المتعاطفين، ونسعى جاهدين لمعالجتها والقضاء على الخطر فيها بأسلوب جذري شمولي.. وهنا مكمن التحدي، ونقطة الانطلاق.
(ثالثاً): الاستراتيجية: المبادئ: لقد سرنا عبر هذه السنوات، ومنذ وقعت الواقعة، بخطوات متباطئة، أحياناً، ومؤلمة، أحياناً أخرى، في رحلة الاعتراف بالمشكلة، وتحسس خطورتها على المجتمع، وعلى أمن الدولة، وعلى مصلحتها العليا.. ولقد آن الأوان أن نتجاوز مرحلة الاعتراف إلى مرحلة التعامل الحقيقي والواقعي والعلمي مع ظاهرة الإرهاب، وهذا يتطلب ضرورة خروج المتخصصين سريعاً باستراتيجية واضحة وشاملة ومعلنة للملأ، ذات أبعاد عاجلة ومتوسطة وبعيدة المدى لمكافحة الظاهرة داخلياً.. استراتيجية تُلامس الجذور الحقيقية للإرهاب، وتجتثه من جذوره، وتتضمن عناصر الوقاية والعلاج، والتنبؤ والمبادرة والاستباق، مع نفس طويل يُتابع ويستخلص الدروس والعبر، ويحلل المواقف والمواجهات، ويقود إلى التراكمية في المعلومات والخبرات والمعالجات.. إن ما نحتاج إليه في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الوطن، وفي ظل الظروف المحلية والدولية الضاغطة التي تهدد الأمن الوطني والمصالح العليا للبلاد، في سياق السعي إلى استراتيجية فعالة لمكافحة الإرهاب من منابعه، هو الاقلال من الخطابية والإنشائية، والكثير من الهندسة الاجتماعية (Social engineering)، التي تنفذ في عمق عدد من المجالات الحيوية ذات الأثر العميق في هيكلية وديناميكية المجتمع السعودي، و(تضعف)، في النهاية، (جاذبية) عناصر الأيديولوجية المتشددة في نفوس الشباب وعقولهم وقلوبهم، تحديداً، وسائر فئات المجتمع الأخرى، عموماً.. هندسة تتناول: الخطاب الديني، والشأن الاجتماعي، والمشاركة الوطنية، والفضاء الثقافي، والرسالة الإعلامية، والبرامج الاقتصادية، والتنمية البشرية، خاصة شريحة الشباب الذين ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنهم أدوات الإرهاب وحملته وهدف الإرهابيين، وإعادة هيكلة بعض أجهزة الدولة، واستحداث أجهزة ومؤسسات جديدة رسمية ومدنية.. هندسة اجتماعية شاملة تتبنى قواعد إعدادها الأسس والاعتبارات التالية:
أولاً: ضرورة الخروج، سريعاً، باستراتيجية وطنية لمكافحة الإرهاب تتسم بالشمولية وتعدد الأبعاد، ذات مدى قصير ومتوسط وبعيد.. وتتجاوز أعراض الظاهرة، وتنفذ إلى الجذور الحقيقية التي تُغذي الإرهاب، وتُعيد إنتاجه، وتُعطيه البريق والجاذبية، داخل المجتمع السعودي، ومن ثم تقود إلى تجفيف منابعه وإزالة مناخاته والعوامل المؤثرة في نموه، مع أهمية وجود مرجعيات وآليات للتحليل والمتابعة والمراجعة والتقويم..
ثانياً: ضرورة الاعتراف الرسمي والمجتمعي بأن الإرهاب، في مجمله، مشكلة داخلية، وأن بعض العناصر التي تغذيه (عميقة) الجذور في بنية المجتمع السعودي نفسه وثقافته.. نعم، قد تأتي ظروف إقليمية أو دولية لتُثيره من حال السكون والكمون التي يمر بها من فترة إلى أخرى، وتعطيه ذلك البريق والجاذبية في النفوس، سواء بين الإرهابيين، أو بين المتعاطفين.
ثالثاً: التسليم بأن هناك ثمناً مادياً وسياسياً واجتماعياً لا بد أن يُدفع، عاجلاً أو آجلاً، ولكنه يستحق أن يُدفع الآن، وربما أرخص دفعه الآن، إذا أردنا أن ندفع شبح الإرهاب، ونتجنب تبعاته، ونتقي مخاطره السياسية والاقتصادية والأمنية المحدقة بالبلاد من الداخل، والتهديدات القادمة علينا من الخارج.
رابعاً: الحاجة إلى إحداث إجراءات عميقة وواسعة الطيف في أجزاء من بنية الدولة ووظائفها وسياساتها.
خامساً: يجب أن يكون الشباب، وقضاياهم واحتياجاتهم، وهمومهم ومشكلاتهم، وتطلعاتهم ومستقبلهم، وتنشئتهم وإعادة تنشئتهم، في قلب الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الإرهاب.. فقد ثبت أن الشباب هم أدوات الإرهاب، وهم أيضاً وقوده والمستهدفون بسمومه، لا سيما وأنهم يمثلون (65%) من المجتمع السعودي.. وهم بهذا العدد قنبلة موقوتة قد تنفجر، في أي لحظة.
سادساً: ليس بالضرورة أن تكون تجربة المملكة مع الإرهاب مشابهة لتجربة مصر واليمن والجزائر، فلكل مجتمع تجربته الخاصة مع الإرهاب، وسياق فكري واجتماعي واقتصادي خاص به يميزه عن غيره، فالفقر والعشوائيات والبطالة واليأس والبؤس قد تكون المحرك الأساسي في نوبات الإرهاب التي تعتري المجتمع المصري، بينما يطغى انسداد الأفق السياسي الداخلي على مشهد الإرهاب في الجزائر، في حين قد يكون الخطاب الديني المتشدد الشاحن فكرياً في المجتمع السعودي هو السبب الأول، وبالتالي، قد لا يكون واقعياً (استعارة) حلول تلك الدول لمعالجة الظاهرة،هنا، في المملكة.
سابعاً: إن استراتيجية (الأمن الفكري) التي تقوم على (المحاورة) مع الإرهابيين و(التوعية) مع المتعاطفين، وتُعول عليها الدولة لمعالجة الإرهاب، لن تكون كافية، وليست هي الحل السحري لمكافحة الإرهاب في المملكة من جميع جوانبه، ومختلف منابعه.. فالأمر أعقد من النظر إلى الإرهاب الداخلي على أنه فكر منحرف (سقط) على رؤوسنا هكذا من السماء! وبالتالي يمكن رفعه ودفعه ودحره بحوار مباشر مع الفئات الضالة، وبتوعية جماهيرية واسعة عبر وسائل الإعلام والدعوة، ويختفي الإرهاب.. هذا التوجه قد يعالج حالات فردية، وقد يؤدي إلى تراجع وتوبة البعض، وقد حصل، لكنه لا يعالج الاختلالات الهيكلية في المجالات الفكرية والثقافية والاجتماعية والتربوية الراسخة في المجتمع السعودي التي أدت، أو ساهمت، أو غذت، أو أنتجت نزعات الإرهاب، في المقام الأول.
ثامناً: إن ما يأتي من الخارج من انتقادات وطروحات وأفكار وآراء ليست بالضرورة شراً كلها.. كما أن الواقعية السياسية، ومتطلبات المصالح المشتركة بين الدول خاصة مع العالم الغربي المسيطر، تتطلب منا التعايش بواقعية مع الآخرين، والالتقاء معهم في منتصف الطريق، فالعالم أصبح قرية كونية وأحادي القطب، ولا يمكننا التعويل على العزلة النسبية، وادعاء الخصوصية، التي كانت متاحة لنا في الماضي، للانكفاء على الذات، وعدم أخذ التحولات الدولية الحالية في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية بعين الاعتبار عند رسم السياسات الداخلية.
تاسعاً: إن العالم من حولنا يشهد تحولات رهيبة ومتسارعة في شتى المجالات، وبالتالي، فإن علينا، دولةً ومجتمعاً، أن نقدر ونجاري وتيرة هذا التغير والتسارع الذي يكاد يخطف الأبصار، إذا أردنا استراتيجية فعالة تُهندس المجتمع، وتعيد صياغته وتوازناته، وفق هذه المستجدات المتسارعة.
عاشراً: الإرهاب في الداخل - فكراً وفعلاً - لم يتلاش، وربما (يتجدد).. ولعل العائدين أو المقبوض عليهم، في العراق، مثال صارخ على هذه الحقيقة المؤلمة.. وحتى لو تراجع حركياً فإن سطوته الفكرية ما زالت قائمة وقوية.
حادي عشر: مع التسليم بأن جذر الإرهاب في المملكة فكري في أساسه، إلا أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية، والقصور في بعض خدمات الدولة تلعب دوراً في (جاذبية) الأيديولوجيا المتشددة لدى عدد من الشرائح في المجتمع.
ثاني عشر: علينا ألا نتوقع حلاً سحرياً للمشكلة، وألا نتراخى ونعتقد بأن المشكلة سوف تزول تلقائياً يوماً ما وما علينا سوى الانتظار.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved