Thursday 22nd December,200512138العددالخميس 20 ,ذو القعدة 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "الرأي"

ليس كل ما يسر العين يسعد القلب ليس كل ما يسر العين يسعد القلب
وصايف بنت إبراهيم الخويطر

نظرت سارة من وراء النافذة إلى الأطفال يلعبون في الحديقة.. واستأذنت الخادم بأن تذهب لتلعب معهم بصوت طفولي مكسور.. فردَّ بقسوة.. (عفواً.. لكنها أوامر يجب أن ألتزم بها)..!
هكذا كانت حياة سارة.. حياة جامدة تخلو من الإثارة.. وباردة تفتقر إلى الشغب الطفولي.. عندما كانت تطلب الذهاب للعب مع الأطفال ممن في عمرها، كان أبوها يحضر ألعاباً أكثر منها في غرفتها.. وعندما طلبت الذهاب مع صديقاتها.. أحضر شاشة السينما لقصره..! كيف لا وهي الفتاة الوحيدة التي أنجباها بعد صبر دام سنين طويلة.. كان يخاف عليها من أصدقائها ومن كل من حولها.. لذلك جعل لها مجموعة من الخدم للعناية والاهتمام بها فهو ووالدتها مشغولان للغاية ولا يرجعان عادة للمنزل إلا في وقت متأخر.
كانت سارة أكبر من عمرها.. فبالرغم من صغر سنها إلا أنها كانت تشعر بأن هناك خطأ ما في طريقة حياتهم.. وأنهم ليسوا كبقية العائلات كما تروي لها صديقاتها.. مرَّت السنون تلو السنين وكبرت سارة وأصبحت فتاة راشدة في أواخر المراحل الدراسية.. أما عن حياتها فلم تتغيَّر بل الوضع يزداد سوءاً.
ذات يوم تلقت سارة دعوة من إحدى صديقاتها للذهاب معها للبيت وتناول وجبة الغداء والتعرُّف على العائلة.. فرحت كثيراً واستأذنت من والديها وبصعوبة بالغة وافقا على هذا الطلب.. وبلا مرافقين.
دخلت سارة إلى منزل صديقتها المتواضع.. انبهرت..! وبانت علامات الإعجاب على وجهها على الرغم من أن المنزل صغير جداً وقد يكون بحجم أحد ملاحق قصرها..!
واستغربت من وجود والدة صديقتها وأخواتها في غرفة المعيشة يتسامرون ويشاهدون التلفاز.. ورأت عبر النافذة أبا صديقتها وأخواتها وبعض الأصدقاء يقضون وقتاً ممتعاً في الأحاديث المضحكة تحت ضوء الشمس.. ويزداد تعجبها وتأملها..!
بعد الغداء أخذت سارة مع والدة صديقتها وأخواتها في التحدث طويلاً قاضية أمتع أوقات حياتها.. كانت تتكلم وتتكلم وكأنها مخروسة لسنوات طويلة، وقد جاء من أنطق لسانها.. كانت تتناقش وعلامات الفرح على وجهها.. نقاشات هي الأولى في حياتها.. كيف لا فهي لم تجرب أن يناقشها أحد أو يخالف رأيها، فكل طلباتها أوامر، وكل ما تتمناه مستجاب، واعتادت على أن كل ما تقوله صحيح لا نقاش فيه ولا خطأ.. وليس فيه خلاف..!
أنهت سارة حديثها مع الأم قائلة: (آه كم أنت قريبة من القلب.. هل أنت دائماً هنا.. هل أنت دائماً هكذا؟ محظوظون هم أولادك.. فليت كان لي أم مثلك، فأمي في حياة أخرى خارج مجرة منزلنا.. لا همَّ لها سوى الجمال والأناقة مع شلة تماشيهم ليسوا هم أقل منها اهتماماً بتلك السخافات.. أنت يا خالتي كنز وثروة ليتني كنت أمتلكها).. وأدمعت عيناها.. وقبل أن تتوجه إلى الباب.. ألقت نظرة إلى ذلك الأب الضاحك في الخارج وقالت بحزن: (ليتني أرى ضحكة أبي).. ودعتها صديقتها عند الباب معاتبة: (لا أصدق بأن هذا الكلام يخرج منك أنت يا سارة؟ أنت..؟ صاحبة القصر والمال والجاه تعجبك حياتنا العادية؟.. بل حياة الفقر إن صح التعبير).. وأردفت بحسرة: (لديك كل أولئك الخدم بينما نحن في حاجة لخادمة واحدة تساعدنا في أعمال المنزل التي أهلكت أمي.. ربما يا سارة أنتِ لا تقدرين النعمة التي تعيشينها، لكنني أتمنى أن أقضي ساعة واحدة في قصركم كأقصى أمنية في حياتي وأول تجربة أود أن أعيشها).
خرجت سارة من منزل صديقتها وكل جزء منها رافض وغير مقتنع بهذا الكلام.. محدثة نفسها: (كانت تلك المرة الأولى التي أشعر فيها بالسعادة في عمري.. إنني وحيدة جداً وما ذكرته صديقتي لم يحقق لي السعادة ولم يرسم البسمة على شفاهي يوماً.. كنت أبحث دائماً عن الشيء الناقص في حياتي ولم أكن أعرفه، لكنني اليوم عرفته جيداً.. والشكر لهم.. فقد ذكَّروني.. بل علموني للمرة الأولى ما هي العائلة.. وما هي الحياة الحقيقية؟)..
رجعت سارة إلى قصرها وهي لا تعلم من أين تبدأ وكيف تبدأ.. وكل ما يخطر في بالها.. أملاً في إمكانية إصلاح هذه العائلة والتعديل من وضعها.. تقفز في وجهها أكوام الخيبة والتشاؤم.. غالقة عليها نوافذ الأمل.. وضعت رأسها على مخدة من ريش وتلحفت بالحرير.. وأجهشت بالبكاء..! حتى أفزعت الخدم من حولها من صوت ذلك النشيج الخارج من غرفتها.. وفي رأسها أمنية تريد تحقيقها.. هي أقرب للمستحيل.. استيقظت صباحاً على يد الخادمة الشخصية.. وتذكَّرت أنه يوم إجازة.. أي يوم الفطور مع العائلة.. فطور صارم تمقته.. يسوده الصمت الذي يشبعها عن أكل الطعام.. جلست سارة على المائدة.. وكلما أرادت البدء في الكلام.. يردعها الخوف.. نعم الخوف من كسر روتين يومي اعتادوا عليه منذ قديم الزمن..
الصمت لا يزال سائداً ولا تسمع إلا قرقعة الشوك والسكاكين.. وكل قرقعة تفزعها وتقطع عليها خيوط ذلك التفكير العميق.. وأخيراً قررت البدء.. فبدأت بتلقائية لم تخطط لها من قبل..!: (أبي.. أنا تعيسة في حياتي.. فهل أنت سعيد؟!)
نظر إليها الأب بتعجب! واتسعت عينا الأم في وجهها قاصدة بذلك توبيخها.. (أمي لا تنظرين إليَّ هذه النظرات فوالله ما عدت أطيق بعد اليوم هذا التصنُّع الدائم والروتين الممل.. أبي.. لَمْ تجاوبني هل أنت سعيد؟)
فرد الأب بعصبية غير متوقعة: (لا!!.. أنا الآن تعيس.. فها هي فتاتي الوحيدة التي صرفت عليها الملايين لإسعادها ولتوفير كل ما لا يستطيع الغير توفيره.. تقف بوجهي وتقول لي إنها تعيسة!)
(أبي.. نعم أقرّ بأنك وفرت لي كل شيء سواء طلبته أم لم أطلبه.. إلا نفسك!.. لم تتفرَّغ يوماً واحداً.. أكاد لا أراك لأسابيع وشهور، ولا أعلم إلا بعد مدة أنك مسافر.. أرجوك افهمني يا أبي.. إن حياتي تحتاج لوجود أب وأم.. لعائلة كغيري من الفتيات فلِمَ تحرمونني من أبسط حقوقي؟! لا أريد هذا القصر الموحش.. فعشة تجمعنا نحن الثلاثة قد تعجبني أكثر منه.. لا أريد هذه الأشياء الغريبة التي جمعتها لي من أنحاء العالم والتي تتمناها غيري من الفتيات.. من حبك الطاغي لي يا أبي أغلقت عليَّ كل الاتجاهات خوفاً عليَّ.. حتى كدت تخنقني!! أنا أريد حياة بسيطة متفاهمة تجمعنا ليلاً ونهاراً في مجلس واحد نتحدث فيه كثيراً حتى نزيل تلك الحواجز.. بل الأسوار التي بنتها الأيام بيننا.. أنا بالكاد أعرفك يا أبي أو أعرف أمي ولا تصلني منكم إلا الأموال.. فهل تسرك حياتي هكذا يا أبي؟.. خذوا أموالكم عني واعتقوني!! حياتي بلا حياة.. حياتي ميتة.. فهل تفهم معنى ذلك؟!) لم تستطع سارة الإكمال.. خانتها دموعها الواعدة بالقوة.. وركضت لغرفتها باكية.. كانت خائفة جداً وهي تتكلم.. فهذه هي المرة الأولى التي تتحدث فيها مع والديها بتلك الطريقة.. وبلا رسميات أيضاً!.. ومضت داخل غرفتها لأيام طويلة مانعة دخول أي أحد عليها.. وتتحسَّر لأن الحياة التي ظلت تبحث عن سرها لسنوات طويلة اقتربت منها جداً.. لكن هيهات أن تمحو ما نحته الزمن.
بعد أيام طويلة.. دخل عليها أبوها في غرفتها بينما كانت تحملق عبر نافذتها الكبيرة.. إلى اللا شيء!.. أحست بوجوده لكنها لم تلتفت إليه.. قالت بحزن: (كم يوماً، بل كم شهراً لم تعتب قدماك بابي يا أبي.. فما القضية؟ هل أتيت بنفسك هذه المرة بدلاً عن الخادم لإعطائي قائمة العقوبات)؟.
ابتسم الأب وقال: (قرة عيني سارة.. كلامك كان كالصفعة التي ردَّت لي رشدي.. وكأنني كنت في غيبوبة دائمة استيقظت منها مؤخراً.. لم أعتد على أن يواجهني أحد بتلك الطريقة.. أو يكلمني عن أمور حياتي لاعتقادي بأني لا أحتاج إلى ذلك.. فالكل يحسبني مثالياً لا أحتاج للعتب أو الصراحة.. أحسست بك ذلك اليوم بقوة.. وفهمت تماماً ما كنت تعنيه في وصفك حياتك بالميتة.. وليست حياتك فقط.. بل حياتنا جميعاً ميتة.. لا بد من إحيائها).
كان ذلك آخر ما سمعته عن أخبار تلك العائلة.. حاولت التّقصي أكثر فسمعت (كما سمع غيري) بأنهم باعوا قصرهم.. وتقاعد الأب عن وظيفته (فلقد جمع من المال ما يكفي أحفاد أحفاده).. وتغيَّرت كلياً مبادئ وأوليات الأم.. وعاشوا سعداء في منزل متواضع مكوَّن من طابق واحد.. فيه غرفتان بالإضافة لغرفة معيشة.. وأشياء أخرى.
أعزائي.. علمتني تلك القصة.. أن ليس كل ما يسر العين يسعد القلب.. فكم من عين ممتلئة وروح خاوية.. لكن الأكيد.. أن كل ما يسعد القلب.. فهو يسر العين.

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved