نقول: نعم.. إن للموت علامات، وبخاصة من تجاوز عمرهم المعتاد، الذي أومأ إليه قوله صلى الله عليه وسلم: (أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين) (رواه ابن حبان). أي ليس له (آن) محدد أو سن معين، أو عمر تقريبي، إنما هي علامات ظاهرة (.. تأتي مع تقدم العمر)، وقد قال الحكيم لقمان (لا غائب.. أقرب من الموت)، .. وكذا، أنشد أبو العتاهية في هذا المعنى، فقال:
إذ قضى (القرن) الذي أنت فيه
وخلفت في قرن فأنت غريب
حتى يقول المفتي (محمد بن إبراهيم) رحمه الله:
إذا الرجال ولدت أولادُها
وبليت من كبرٍ أجسادُها
وجعلت أسقامها تعتادها
تلك زروع قد دنا حصادها
ويقول سفيان الثوري رحمه الله تعالى: (من بلغ سن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فليتخذ لنفسه كفناً). وقال ابن الجوزي في (صيد الخاطر) :(إن المرء.. إذا جاوز (السبعين).. جعل الغالب عليه ذكر الآخرة والتهيؤ للرحيل، فيوفر نفسه،.. إلا من تعليم يحتسبه أو تصنيف يفتقر إليه، فذلك أشرف العدة للآخرة. وقد بلغ جماعة من العلماء سبعاً وسبعين سنة، منهم أحمد بن حنبل، فإن بلغها.. فليعلم أنه على شفير القبر، وإن كل يوم يأتي بعدها مستطرف. وأما الثمانون فمن يبلغها.. فقد سئم الحياة وملها، وهي نذير الموت). - و.. ربما عنى ما قاله زهير بن أبي سلمى:
سئمت تكاليف الحياة، ومن يعش
ثماين حولاً.. لا أبا لك يسأمِ
ثم.. يتبع ابن الجوزي: (فإن تمت له الثمانون.. فليجعل همته كلها مصروفة إلى تنظيف خلاله وتهيئة زاده، وليجعل الاستغفار حليفة والذكر أليفه). وكما قيل:
لله در الشيب من واعظٍ
وناصح لو حظي الناصح
قال بعضهم: (السعيد من وُعِظ بغيره).. أو - كما قيل- (إن الموت تعداكم لغيركم، وسوف يتعدى غيركم إليكم). حتى.. قال (ابن جبير):
أسوأ الناس تدبيراً لعاقبة
من أنفق العمر فيما ليس ينفعهُ
ويردد أحدهم:
قالوا: أنينك طول الليل يشغلنا!
فما الذي تشتكي؟ قلت: الثمانينا
أي: أن أبناء الثمانين يشغلون من حولهم بالأنين، وقد لا يكون غالبه أنين الألم، بل هو.. دنو الأجل. هذه العلامة (الظاهرة) أو المقروءة بالسّن، أما علاماته الواضحة في الجسد، فقد عبر عنها الكثيرون، كما جاء في (إرشاد العباد) (ص:2): (أن يعقوب عليه السلام قال لملك الموت: إني أسألك حاجة؟ قال: وما هي؟ قال: أن تخبرني إذا دنا أجلي وأردت أن تقبض روحي؟ فقال: نعم، أرسل إليك رسولين أو ثلاثة، فلما انقضى أجله أتى إليه ملك الموت، فقال: أزائر جئت أم لقبض روحي؟ فقال: لقبض روحك، فقال: أو لست كنت أخبرتني أنك ترسل إلى رسولين أو ثلاثة؟ قال: فعلت.. بياض شعرك بعد سواده، ضعف بدنك بعد قوته، انحناء جسمك بعد استقامته، هذه رسلي يا يعقوب إلى بني آدم قبل الموت). وأكدها بعضهم: نعم إن للموت علامات، فانحناء الظهر، وسقوط الأسنان، وبياض الشعر.. كلها علامات، وهذه الأخيرة قال فيها (توفيق البكري) رحمه الله تعالى:
أشعرة بيضاء!، أم
أول خيط الكفن؟
وقال الله تعالى على لسان زكريا عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (4) سورة مريم. حينها لا مفر ولا مهرب، قالت (أم السليك):
كل شيء قاتلك
حين تلقى أجلك
وصدق الله تعالى حيث قال: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} (78) سورة النساء. - قال أمية بن أبي الصلت:
يوشك من فر من منيته
في بعض غرته يوافيها
وكما قال أبو ذؤيب:
وإذا (المنية) أنشبت أظفارها
ألفيت كل وقية لا تنفع
لحديث: (الحبة السوداء دواء كل داء.. إلا السام)- .. وهو (الموت) - رواه البخاري. .. فلا ينفع وقتها، الدواء، ولا المداوي:
قل للطبيب تخطفته يد (الردى)
من ذا بطبه.. يا (طبيب) أرداكا؟!
و.. يقول تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ} (94) سورة الأنعام. لكن نقول لمن بلغ تلك (السّن): أنقذ نفسك من النار، وتمم إحسانك، وأتبع الخير خيراً؛ لتبلغ (حسن الخاتمة) بإذن الله تعالى.. الذي وعدد ب {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (56) سورة يوسف. ويقول الرحالة حسين بن جبير:
عجبت للمرء من دنياه تطمعه
في العيش والأجل المحتوم يقطعه
يغتر بالدهر مسروراً بصحبته
وقد تيقن أن الدهر يصرعه
ويجمع المال حرصاً لا يفارقه
وقد درى أنه للغير يجمعه
تراه يشفق من تضييع درهمه
وليس يشفق من دينٍ يضيعه!
ف.. إن (من عظيم النعمة): أن يسخر الله تعالى للعبد من يعظه، ثم يعطيه القلب العقول المدرك للنصح، ثم يلهمه التوبة النصوح، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)} سورة النساء. وقد حذر المولى سبحانه: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (22) سورة الزمر-.. نعم هذا وربي.. السبب في كراهية الموت:
إلى الله نشكو (قسوة) في قلوبنا
وفي كل يوم ناعي الموت يندبُ
-.. و(قسوة القلب) مادة مستقلة تحتاج إلى بسط فيها، لعلي أتطرق إليها في مادة أخرى -بإذن الله-. - حتى قال (مالك) بن دينار: ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب- و.. قال بعضهم:
هب الدنيا تساق إليك عفواً
أليس مصير ذاك إلى الزوال
وجاء في (حلية الأولياء) - 10-226-: (قال الناصح:
اعمل فأنت من الدنيا على حذرٍ
واعلم بأنك بعد الموت مبعوث
واعلم بأنك ما قدمت من عمل
محصى عليك، وما جمعت موروث)
وأوجز (سلمة بن دينار): كل عمل تكره الموت من أجله.. فاتركه، ثم لا يضرك متى.. مت. .. ثم هذه (الحقائق) العامة عن الموت: أولاً.. هو (حكم قضى به الله على جميع الخلائق)،.. فلا.. ولن يشذ عنه نبي مرسل ولا ملك مقرب! إذ/ ليس أكرم على الله سبحانه وتعالى من إمام الأنبياء وسيد الأولين والآخرين - من مدلول قوله صلى الله عليه وسلم (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)-.. محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم، وقد حكم الله سبحانه عليه بالموت، في قوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (30) سورة الزمر-.. قال صالح بن عبدالقدوس:
(الموت) باب وكل الناس داخله
- فليت شعري.. بعد الموت ما الدار!!
ثانياً: إن الموت يشمل كل حي من المخلوقات، بمن فيهم الأنبياء والملائكة، والجان، بل حتى ملك الموت نفسه، قال سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (88) سورة القصص، وقال تعالى أيضاً: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} (60) سورة الواقعة. وعن أبن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعوذ بعزتك الذي لا إله إلا أنت، الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون) (متفق عليه). وقال سبحانه: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}(34) سورة الأعراف، فمهما حاول الإنسان التخفي، أو التمترس عنه، فلن يجديه فعل هذا، بل ولا يجد إلى ذلك سبيلاً، كما قال جل وعلا: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} (78) سورة النساء.
- هو الموت ما عنه ملاذ ومهرب
متى حط ذا عن نعشه.. ذاك يركب
ويقول تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (8) سورة الجمعة، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً} (145) سورة آل عمران. ثالثاً: روى الإمام مسلم عن أم المؤمنين أم حبيبة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وبنت أبي سفيان رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سمعها تقول: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة لن يُعجل شيئاً قبل حله أو يؤخر شيئاً عن حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيراً وأفضل). (رواه مسلم). فمهما دعا الإنسان أن يطول عمره فلن ينفعه شيئاً؛ لأن الأمر محتوم، ولا مناص من هذا؛ لأنه مقدر من قبل مقدر الآجال عز وجل، ويجمل ذلك قوله صلى الله عليه: (لن تموت نفس.. حتى تستكمل أجلها ورزقها) (فيض القدير). رابعاً: جاء في: (صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه سلم قال: (خمس لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم أحد ما يكون في غدٍ، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام، ولا تعلم ماذا تكسب غداً، وما تدري نفس بأي أرض تموت، وما يدري أحد متي يجيء المطر). .. وقد قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}. وأخرج الحاكم في (المستدرك) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أراد الله قبض روح عبد في أرض.. جعل الله له فيها حاجة). ثم.. ولحكمة أدركها كل عاقل، فقد أخفى الله سبحانه وتعالى عن الخلق آجالهم وأوقات ومكان وفاتهم - والله أعلم-: ليكون ذلك دافعاً للإنسان على العمل والاستمرار والجد؛ لأن الإنسان إذا علم وقت موته.. فإنه قد يقترف ما يشاء في حياته من الموبقات ويتبع الشهوات والملذات، ويقول: أتوب قبل أن أموت. ولقد حدد الله سبحانه وتعالى لكل مخلوق مكاناً وزماناً لموته فلا يحيد عن مكان وفاته قيد أنملة، ولا يزيد في عمره طرفة عين، فهو أمر محتوم لا شك فيه، وقضاء مبرم لا يتغير. ومن العجيب ما روى في: (تفسير البيضاوي): (أن ملك الموت مر على نبي الله سليمان عليه السلام، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه ويديم النظر إليه، فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني، فمر الرياح أن تحملني وتلقيني ببلاد الهند، ففعل، ثم قال الملك لسليمان عليه السلام: كان دوام نظري إليه تعجباً منه، حيث كنت أمرت بأن أقبض روحه بالهند وهو عندك، فسبحان من صرفه إلى أجله بيده!). إذاً.. فقد اقتضت حكمة الله في إخفاء (الأجل) ومكانه؛ حتى لا يعلق في ذهن الحي (وقته) فيتنكد.. وينصرف شغله إليه، أو يجنب مكان وروده عليه! خامساً: لكن - أسباباً- ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في (صحيحه) عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أراد أن ينسيء له في عمره، ويمد له في رزقه.. فليصل رحمه).. فالغالب أن هذا معناه (البركة) في العمر، وذلك بأن يلهمه الله تعالى فيه عمل الخيرات والصالحات، وترك المنكرات والطالحات من الأقوال والأعمال، فيكون قد ختم الله له بالحسنى، فيفوز في الدنيا والآخرة. وذاك.. أي: يمد.. ويطوّل، وكما قال أنس رضي الله عنه: أوصاني النبي بخمس خصال.. منها (أسبغ الوضوء يزد في عمرك) أخرجه الطبراني في الأوسط 5-328 . ختاماً: قال أحد الحكماء: (إنما أنتم في الدنيا أغراض المنايا، وأوطان البلايا، ولن تنالوا نعمة إلا بفراق أخرى، ولا يستقبل منكم معمر يوماً من عمره إلا بانتقاص آخر، فأنتم أعوان الحتوف على أنفسكم، وفي معاشكم أسباب مناياكم، لا يمنعكم شيء منها، فأنتم الأخلاف بعد الأسلاف، وستكونون أسلافاً بعد الأخلاف، بكل سبيل منكم صريع متعقر، وقائم ينتظر، فمن أي وجه تطلبون البقاء؟!). والأبيات، بل والأمثال والحكم في هذا.. أكثر من أن يؤتى عليها، أو تستقصى بهذه (النبذة)- التي هي للتنبيه، والإعلام، والإفاقة من الاسترسال بالأحلام-.. وهي يقظة المنام.. والسلام.