الناشطان د.عائض القرني ود.سلمان العودة أعدهما بلا ريب أهم الانفراجات التي أدت إلى تقارب كبير بين اتجاهات المجتمع. لقد فطن المصلحان اللذان أحيطا لزمن طويل بالمريدين والمصفقين وتزاحم الناس حولهما وضجيج أشرطتهما ومحاضراتهما التي ملأت الأسماع وساقت الشباب بدون وعي إلى أن يزيدوا كثيراً على ما أراده خطاب المصلحين. ويبدو الداعية د.عائض القرني أكثر وضوحاً وشجاعة في مواقفه بينما يظهر على د.سلمان العودة.. الذكاء والحرفنة في الانتقال بهدوء ودون تصادم صاخب من مرحلة التشدد إلى مرحلة التسامح والتوازن والاندغام مع فقه الواقع والنظر إلى الأمور بميزان يعطي المرونة في تقبل أفكار الآخرين طالما أنها لا تمس ثابتاً قرآنياً أو حديثاً شريفاً صحيحاً. فقول د.عائض القرني وصدحه بالحق في أن قيادة المرأة للسيارة ليس فيها نص تحريم لكنه استدرك بأنها غير جائزة بإجماع علماء أكثر منه علماً.. وحتى في تراجعه قال بعدم جوازها ولم يقل إنها محرمة وهذا ما هو عليه صوت العقل أيضاً، فعدم جوازها الآن لا يعني عدم جوازها في آن آخر، فالأسباب التي دعت إلى عدم جوازها قد تتبدل وقد ينظر إليها بنظرة أخرى وفق باب المصالح ودرء المفاسد.. فهذا باب متحرك ومرن ويحكمه الواقع المعاش ونظرة العالم وقدرته على قياس رأيه وفق هذا الواقع ومصالح الناس وحمايتهم من الضرر. ** ود. القرني كان شجاعاً حين قال إن غطاء الوجه أمر اختلفت حوله المذاهب الفقهية.. بينما كان الدرس الذي يملى على الجميع هو أن غطاء الوجه متفق عليه ولا خلاف.. بينما يعرف الدارسون للفقه الإسلامي أن هذا أمر معروف ولكن أن يقول بأمر الاختلاف واحد من أبناء المدرسة التي تؤمن بأن الوجه واجب الحجب فهذا فيه تجاوز على الرغم من أن د.عائض القرني لم يرجح ولم يذكر رأيه بل أشار إلى مسألة الخلاف. ** على النقيض ابتعد د.سلمان العودة عن كل الموضوعات الحساسة التي تتطلب تصادماً مع المجتمع.. وأقصى ما قاله العودة إن نقد المتدينين لا يدخل ضمن نقد الدين.. فالدين من عند الله والمتدينون بشر لهم أخطاؤهم ولهم صوابهم فنقد ممارساتهم لا يدخل في نقد الدين. وكانت مقولته المهمة أيضاً عن أن المرأة السعودية تجد بعض المظالم وأن موضوع المرأة لم يأخذ بعداً في تفكير المصلحين ولم يحظ فعلاً برؤية واضحة لإصلاح وضعها.. وهذا صحيح.. ** العودة في حواراته ولقاءاته يمر سريعاً على مرحلته السابقة ويتحسس كثيراً من أولئك الذين يسألونه عن التغير الذي حدث له. وهو وفق ما يقول إنه مجرد تعديل في أسلوب المعالجة، والحقيقة التي يعرفها تلاميذ العودة الذين جلسوا إليه أو درسهم في جامعة الإمام محمد بن سعود في القصيم يعرفون حجم هذا التغير فليست المسألة في هدأة الضجيج أو خفوت نبرة الاستعداء. إنما هي حتى في قبوله للآخر المختلف.. وهو تسامح راقٍ أصبح عليه العودة بل ويتسم بالشجاعة في المجاهرة به حيث بادر في مراحل الحوار الوطني الأولى بمصاحبة الشيخ الصفار متجاوزاً كل تلك الحدة والهوة الشاسعة من الفصل بين المذاهب التي كان يعيشها المجتمع السعودي وقد كان موقفه ذلك ومن دون مواربة مرحلة مفصلية في إدماج المجتمع وتشجيع الناس على تجاوز إرثهم المتشدد. ** نحن ولا شك بحاجة إلى ذكاء د.سلمان العودة وثقافته واستقلاليته عن كل المدارس بما فيها السلفية فهو مؤهل في رأيي لأن يكون حلقة وصل مهمة بين كل الاتجاهات بما يتسم به من ليبرالية إسلامية حيث تسامحه وقبوله بحرية الرأي وعدم ضيقه بالرأي الآخر وقدرته على الانتقال بهدوء من فكرة إلى فكرة دون صخب وضجيج يستفز العامة ويستعدي الناس! ** ونحن بحاجة إلى مواقف مشهودة من د.عائض القرني حيث تحتاج بعض الأمور إلى شخصية مجازفة تستطيع أن تواجه الحشد بموقفها وحتى لو داهمت د.القرني مشاعر حب العزلة والضيق بالمريدين الناقمين.. لكنه لا يملك خيار نفسه.. فليس د.القرني ينصرف عن شأن الناس وهم الآن بأمس الحاجة إليه.. الحاجة إلى د.عائض القرني الذي صقلته التجربة، وخبر الشدة وخبر التسامح.. وذاق هدأة الحياة مع قبول الآخر والنظر إلى الأمور بمنظار مستقل يحكم فيه الإنسان عقله الخاص وعلمه الخاص وضميره الخاص وينتصر على الصخب والضجيج.. ويعيد الحراك الآمن لأمته.. ويصل بين مرحلة ومرحلة بحلقات آمنة قادرة على التطور وليس الانفصام.. ولا أظن القرني يطيل الاعتزال وإنني مع الناس أجمعين ندعو للشيخين بالتوفيق والسداد والمزيد من اتساع الرؤية والتسامح والاستقلالي.. والتماس مع قضايا الناس وهمومهم التي يحلمون أن يعبروها إلى الشاطئ الآخر!
|