Friday 9th December,200512125العددالجمعة 7 ,ذو القعدة 1426

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

 

انت في "أفاق اسلامية"

الأمن الشامل ..بين الأمس واليوم الأمن الشامل ..بين الأمس واليوم
أ.د. حسن عبد الغني أبو غدة (*)

تهدف جميع الدول والأنظمة اليوم إلى تحقيق مزيد من مظاهر الأمن الشامل في بنيتها الوطنية والاجتماعية, وفي علاقات الناس بعضهم ببعض, تفادياً لما قد يطرأ على المجتمعات والأفراد من مفاجآت تخل بأمنها واستقرارها, وتؤثر في حاضرها ومستقبلها, ولكلِ ِنظامٍ أسلوبٌ ومنهجٌ فيما يسعى إلى تحقيقه.
لقد عمل الإسلام على استتباب الأمن الشامل بكافة صوره وأنواعه بطرق عديدة وأساليب متنوِّعة, جعلت كل فرد يُحِسُّ في قرارة نفسه, أنه المسؤول المباشر عن أمن أسرته وجيرانه ومجتمعه ووطنه, وعن سلامتهم واستقرارهم وازدهارهم, وفاءً لهذه الجهات التي ينتمي إليها ويندمج فيها ويرتبط بها, ورداً للجميل الذي طوّقت به عنقه, روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
وانطلاقاً من هذا المبدأ في وحدة المشاعر والأحاسيس والهموم الأُسرية والدينية والاجتماعية والوطنية, شرع الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجعل ذلك من أهم أسباب أفضلية المجتمع الإسلامي فقال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}(110)سورة آل عمران.
وفي الحديث الذي رواه مسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان).
تروي كتب الصحاح والسنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشر بنفسه السهر على رعاية المجتمع وسلامته في المجالات الأمنية, والفكرية الثقافية, وفي العلاقات الاجتماعية, فضلاً عن قيامه بمهمة الإرشاد والتوجيه والإعلام, وإعداد الفرد الصالح في المجتمع الصالح, وهذا ما يُطلق عليه اليوم: (الأمن الشامل).
ومن هذه الوقائع والنماذج ما ذكرته كتب السيرة: أن أهل المدينة فزعوا في إحدى الليالي على صوت دوي في بعض جنباتها, فانطلق أناس تجاه الصوت, فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاهم راجعاً - بعد أن سبقهم إلى مكان الصوت واستبرأ الخبر - على فرس عري والسيف في عنقه, وهو يقول لهم مطمئناً: لن تراعوا, لن تراعوا, أي: لا تخافوا, لا تخافوا...
ومن هذه الوقائع النبوية في العمل على تحقيق الأمن الثقافي وإيقاف الغلو والانحراف الفكري: ما رواه الشيخان: أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تعاهدوا على التشدد في الدين والغلو فيه, فقال أحدهم: أنا أصلي الليل ولا أرقد, وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر, وقال ثالث: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً... فلما بلغه ذلك خطب في الناس وقال: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا, أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له, لكني أصوم وأفطر, وأصلي وأرقد, وأتزوج النساء, هذه سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني...
وإنما فعل ذلك من أجل تحقيق الأمن الثقافي للمجتمع المسلم, وحمايته من الانحراف الفكري والغلو في الدين, لئلا يصير هؤلاء النفر قدوة لغيرهم في الخروج على سنن الاعتدال والوسطية التي جاء بها الإسلام, فيَضلوا ويُضلوا غيرهم بغير علم ولا هدى, وهذا ما تشهده وتئن منه ساحات أدعياء العلم والدعوة...!!.
ومن هذه الوقائع النبوية في العمل على تحقيق الأمن على صعيد العلاقات الاجتماعية وتجنيب الناس المنازعات والخصومات, ما رواه الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يبيع قمحاً, فأُلهم أن يُدخل يده فيه, ففعل, فأصابها بلل, فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ هلا أظهرته حتى يراه الناس؟! من غشنا فليس منا...
تتعدد وتختلف نماذج الخلل والنقائص في عموم المجتمعات, بل هي متجددة بتجدد حركة المجتمعات وتطورها, فقد يكون بعضها في المجالات الوظيفية حيث لا يتقن الموظف عمله ولا يقوم بواجباته, وربما امتدت أطماعه إلى الممتلكات الخاصة أو العامة رشوة واختلاساً ومصادرة وتزويراً!.
وقد يكون الخلل في تصرفات طائشة يباشرها أفراد من جهالة أو حقد أو كراهية, للإساءة إلى الأمن العام وقتل الأبرياء وترويع الآمنين وإتلاف الممتلكات وتدمير الأوطان!.
أو يكون الإخلال بالأمن في إشاعة كاذبة يطلقها مغرض كذباً وبهتاناً, لا يدري أنها هوت به في جهنم سبعين خريفاً!.
وربما يكون الخلل الاجتماعي في نشاطات هدّامة تمارسها عصابات عن طمع وأنانية للحصول على المال الخبيث, من خلال ترويج المخدرات ونحوها من السموم التي تفتك بالأفراد وتدمر المجتمع وتقضي على رجال مستقبله!.
أو يكون الخلل في ممارسات رعناء يقوم بها مراهقون يسيئون إلى المرافق الخاصة والعامة, في الأحياء والشوارع والحدائق والشواطئ, ويتلفون المصابيح والأشجار, ويكسرون الأرصفة والأسوار, ويسيئون إلى استراحات الناس وأماكن جلوسهم....!.
إن من حق المجتمع على أفراده أن يقابلوا ما يطرأ عليه من المظاهر السلبية أو التصرفات الشاذة المؤذية بالرفض والاستنكار والنصح والتصحيح, سواء أكان ذلك عن طريق فردي أهلي, أم كان بالوسائل الإعلامية والتربوية والجهات الرسمية, وذلك لسدّ أبواب الخلل قبل أن يستفحل الشر ويستشري الأذى والفساد ثم يصعب علاجه أو الحد منه.
ولقد صوَّر الرسول صلى الله عليه وسلم مجمل ذلك في الحديث البليغ الجامع الذي رواه البخاري: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة - اقترعوا على أماكن الجلوس فيها - فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها, فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم. فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا, فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً, وإن أخذوا على أيديهم نجوا, ونجوا جميعاً).
وهكذا الأفراد في المجتمع يؤول مصيرهم إلى الخير والنجاة والأمن والسعادة إن تصدوا لصور الانحراف والتطرف والجريمة والفساد والشر, وقاوموا الخلل بالنصيحة والتوعية والوعظ والإرشاد, والتعاون مع الجهات المختصة في الأخذ على أيدي المتجاوزين...
وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(71)سورة التوبة.

(*)كلية التربية - جامعة الملك سعود - الرياض

 


[للاتصال بنا] [الإعلانات] [الاشتراكات] [الأرشيف] [الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved