* متابعة / تركي إبراهيم الماضي : ليس أصدق في الرصد من التدوين اليومي؛ فهذا الأسلوب يمنع تداخل الأحداث واختلاط أوراقها، ويقي من وهدات الذاكرة التي قد تصيبها بالوهن في ظل تزاحم المستجدات، كما يوثق بالكلمة المدونة الحدث في أوانه دون زيادة أو نقصان. ****** كان ذلك حال السفير عبدالله بشارة وهو يدون يومياته إبان توليه مسؤولية الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي في الفترة من 1981م حتى 1993م، فلقد رصد الرجل وهو يعتلي هذا المنصب الكبير متابعاته يوماً بيوم، وهي متابعات ثرية ليس لراصد يعيش قرب الحدث فقط، بل لمشارك فعّال في صناعة ذلك الحدث بما يوفره من أرضيات لصناعة القرار الخليجي تجاه مختلف ما يدور في الساحة من مستجدات. ولذلك حين أخرج السفير عبدالله بشارة كتابه الثري (عبدالله بشارة بين الملوك والشيوخ والسلاطين) فقد قدم سجلاً توثيقياً من الدرجة الأولى لفترة مهمة من تاريخ الخليج؛ إذ يكفي الاستدلال على أهمية الفترة بالحرب العراقية الإيرانية وما أفرزته من مهددات، وغزو العراق للكويت بما أدى إليه من تداعيات، فضلاً عن الكثير من المشكلات الخلافية التي شهدتها المنطقة آنذاك.. وتبدو صورة الكتاب مختلفة عن الكتب الشبيهة من عدة نواح؛ فهو ليس سيرة ذاتية بالمعنى الذي يكتفي برصد دور الراصد في تلك الأحداث، وهو - كذلك - ليس تدويناً أكاديمياً بشكله البحثي تجاه ما شهدته المنطقة من وقائع، كما أنه ليس مستودعاً جامداً لوثائق يطلع عليها المتلقي ليكوّن صورة خاصة به تجاه ما جرى. لذلك، فقد جاء كتاب بشارة آخذاً من كل طرف شيئاً، فهو قد حمل ملامح سريعة متشتتة هنا وهناك عن سيرة ذاتية اقتضتها خدمة السياق المدوَّن، كما حمل بعضاً من روح البحوث الأكاديمية بما تضمنه من وثائق مهمة وصور فوتغرافية متعددة وبيّنات لشاهد عيان لما كان يجري وقتها، وحمل أيضاً قيمة الوثائق المجمعة، لكنه أضاف إليها شروحاته عن الحدث كيف بدأ وكيف سار وكيف انتهى. لذلك يمكن القول - إجمالاً - إن كتاب بشارة حمل مزيجاً من فنون الرصد والكتابة الموثقة لفترة مهمة من تاريخ الخليج، وضم بين دفتيه نسيجاً متجانساً من التسجيلات والتحليلات والتعليقات التي تكمل ملامح الصورة الزاهية لهذا السفْر المهم. إهداء مؤثر وفصول دقيقة تستلفت انتباه قارئ الكتاب بدءاً دسامة المحتويات من ناحية الكم، حيث احتوى على أكثر من سبعمائة صفحة من القطع الكبير، جاءت جميعاً في ورق صقيل يتيح متعة القراءة ويوفر أرضية مميزة للصور الفوتغرافية سواء أكانت ملونة أو من النوع (أسود وأبيض). كما يستلفت نظر القارئ روح الوفاء التي اتسم بها المؤلف وهو يهدي كتابه (.. إلى قادة دول مجلس التعاون.. الحاضر منهم والغائب.. الذين بنظرتهم الثاقبة أدخلوا الخليج في فصل جماعي جديد، صانعاً عربياً ومؤثراً دولياً). بل إن روح الوفاء تتعدى الإهداء لتظهر بشكل لافت في الكثير من مدونات الكتاب، ومثالاً نشير إلى ما سطره في (كلمة البداية) من كلمات جاء في جزء منها: (.. يعيش مجلس التعاون، في هذه الفترة، داخل شبكة من العلاقات الراسخة مع أعضاء الأسرة العالمية، وينفرد بدور مؤثر في الدبلوماسية العربية، ويدخل بترحاب في العواصم العالمية الفاعلة، وهذا الواقع وليد عمل فيه إرادة حاسمة من قبل قادة دول مجلس التعاون الذين أرادوا بناء منظمة إقليمية تجمع الصفوف، وتنظم الجهود، وتحقق المكانة الإقليمية والدولية اللائقة بالمنطقة التي تملك كل عناصر التجديد..). ثم إن القارئ يلحظ أن فصول الكتاب كانت دقيقة في تجميعها للمتجانسات وفقاً للمعيار الزمني، فقد كان كل فصل - تقريباً - يحصر محتوياته في فترة عام ميلادي من بدايته إلى نهايته، وبالطبع فإن هذا لم يتعارض مع ضرورات التمهيد الجيد، والمتابعة الدقيقة بما تحويه من ملامح التعليق، والمداخلة، والتوقف عند المهم، والتجاوز السلس لما لا يستحق الإسهاب. نقطة الانطلاق كان من الواضح أن هناك صعوبات جمة ستواجه بدايات العمل الخليجي على الصعيدين النظري والتنفيذي، فالتجربة لم تكن مسبوقة على النطاق المحلي، كما أن إيجاد الكادر البشري صاحب التجربة والخبرة المتخصصة في المجال التنظيمي المشابه كان أمراً غير ميسور. لذلك، كانت بداية المهام للسفير عبدالله بشارة كأمين عام للمجلس مشوبة بالصعوبات والتحديات العميقة. يقول بشارة في هذا الصدد: (كانت مسؤوليتي بناء الجهاز، لكن المهمة الأكبر هي بناء استراتيجية للفكر السياسي لمجلس التعاون تنظم قواعد الوصول إلى الأهداف التي حددها الميثاق، وترسم الطريق في العلاقات بين أعضاء المجلس، وبين المجلس والمجموعة العربية، والمجلس ودول الجوار، وبين المجلس والأسرة الدولية، كنت أستند إلى المبادئ التي جسدها النظام الأساسي، وهي توحيد الأنظمة والقوانين في جميع المجالات، وصولاً إلى وحدة المنطقة. لكن الوثائق لا تحدد نوع الوحدة، ولا تشير إلى آلية الوصول إليها، ولا تتحدث عن شكل الوحدة، وإنما تدعو إلى (تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولاً إلى وحدته)... ومع ذلك لا بد من الأخذ في الاعتبار واقع الدول الأعضاء التي ظلت بعيدة عن بعضها، ولم ترتبط مع بعضها في صيغة تشاور، ولم ترتبط بمواقف مشتركة، وكانت أولوياتها مختلفة وأحياناً متباعدة، وفي قليل من الأحيان متعارضة. ولهذا فإن تطبيع البيئة السياسية بما فيها بيئة اتخاذ القرار في كل دولة مع مقتضيات العمل الخليجي المستجد يأخذ وقتاً، ولا يمكن تجاهل دوره في تبطئة العمل). الملك فهد في ذهن بشارة أتاحت فرصة تولي منصب الأمين للسفير عبدالله بشارة أن يكون قريباً من الزعماء التاريخيين في مجلس التعاون الخليجي، ولقد احتوى الكتاب على الكثير من اللقاءات والاجتماعات والحوارات التي جمعت بينه وبينهم جماعة وفرادى، ومن خلال ذلك القرب استطاع بشارة أن يختزن صورة قريبة لقادة الدول الخليجية، وحمل انطباعات متعددة تعكس رؤيته القريبة إليهم. ولقد كان خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - من أولئك الذين أتيح لبشارة أن يعرفهم ويتعامل معهم؛ ولذلك استطاع أن يكوّن انطباعاً عميقاً ومؤثراً عن شخصية الملك الراحل. يقول بشارة متحدثاً عن الملك فهد: (كان الملك فهد كبيراً في ترفعه عن الصغائر، وكبيراً في تسامحه، وكبيراً في كرمه المادي والسياسي، وكبيراً في بُعد نظره.. شعرت دائماً أنني أمام قائد بعقل راجح، واتزان واضح، وفكر مرسوم، كان يردد أن سمو الشيخ جابر الأحمد هو أميرنا جميعاً ليس للكويت فقط، وكان يسألني عن أمور عائلية، وكثيراً ما عرض علي توفير طائرة خاصة إذا ما أردت الذهاب إلى أوروبا حتى في إجازة، لم أسمع منه عن الزعماء العرب إلا الثناء ((....)) الملك فهد رجل دولة بتواضع الخيرين، وكرم المحسنين، وإنسانية الواعظين). الوصايا الثمينة كانت التجربة المميزة للسفير عبدالله يعقوب بشارة أول أمين عام لمجلس التعاون زاداً كبيراً له كي يكون الأكثر إلماماً بنواحي القوة والضعف في التجربة. ولعل إلمامه الواسع بتفاعل المجلس مع القضايا المستجدة على كل الساحات العربية والإقليمية والدولية، وارتحاله الذي تواصل عبر سنوات طويلة بين كثير من دول أوروبا وآسيا للتنسيق الخليجي معها، وإفادته من كثير من التجارب المماثلة، واحتكاكه بالعديد من الشخصيات المؤثرة.. كل ذلك جعله ذا كلمة تستحق السماع. وقد ترجل عن الموقع الرسمي، وها هو يوظف مخزونه من أجل مزيد من دعم التجربة وتقوية عظمها، حيث أورد في خاتمة كتابه حزمة من الملاحظات مصحوبة بتوصيات مهمة، لعل الخطى تتسارع لدراستها وتنفيذها في مقبل الأيام. ولعلنا ونحن نقتطع هذه الجزئية من ملاحظات السفير بشارة نشير إلى أنها تشكل جزئية صغيرة من وصايا ثمينة لم يبخل بها السفير، وجميعها ذات أهمية كبرى ولا غنى عن السعي إلى تنفيذها حتى تصل تجربة العمل الخليجي المشترك إلى الآفاق المرجوة. يقول السفير بشارة: (.. وربما من المفيد أيضاً إعادة صياغة الاتفاقية الاقتصادية ودمج بنودها في ثلاثة مسارات: الاتحاد الجمركي، التعرفة الموحدة، التجارة، بكل حرية بما فيها العقار والنقد والأسهم. ولا أجد مبرراً للقيود المفروضة على التملك ولا على التجارة، في الوقت الذي تبنت فيه جميع الدول برامج الخصخصة، وأقامت دوائر تجذب الاستثمار الأجنبي بحثاً عن مصادر بديلة للدخل، وتماشياً مع التطورات الدولية. وربما من المفيد أن يجتمع المجلس الوزاري في دورة واحدة إضافية تخصص أيضاً لبحث مسيرة المجلس، حيث صارت اجتماعات المجلس الوزاري محصورة في جدول الأعمال المعتاد. كما أقترح أيضاً أن يخصص وزراء المالية اجتماعاً في السنة، لمدة يوم واحد، للإصرار على تحقيق المواطنة الخليجية. ولا يمكن أيضاً تجاهل جهاز الأمانة العامة الذي تتوافر فيه كفاءات لا بد من الاستفادة منها، مع تقليص عدد الإدارات التي أثبتت التجربة إمكانية تأجيلها أو الاستغناء عنها؛ تحاشياً للازدواجية مع المنظمات المتخصصة مثل مكتب التربية، أو بسبب تجاوزها من قبل المستجدات والتحولات الاقليمية والدولية..). ويواصل السفير بشارة حديثة بالقول: (كانت الدول الأعضاء، في مطلع الحماس في بداية عمل المجلس، تطمح في تعيين وزير في حكوماتها لشؤون مجلس التعاون، ولم تتم متابعة هذا التوجه، وهو أمر يمكن إعادة النظر فيه، بعد التجربة العشرينية. وأعتقد أنه بالإمكان اللجوء إلى هذا التوجه، ليس بالضرورة بتعيين وزير مختص، وإنما يمكن تجربة تعيين وزير دولة في مجلس الوزراء، من مسؤولياته متابعة شؤون مجلس التعاون داخل دولته، من ضمن مسؤوليات أخرى.. هناك وزراء يتولون مسؤوليات تتعلق بمجالس الشورى والبرلمانات، ويمكن التعويض عن تعيين وزير مختص ومتفرغ باللجوء إلى تكليف وزير دولة في مجلس الوزراء بمهام مجلس التعاون..). وبعد كانت تلك لمحة عجلى عن الكتاب المهم الصادر بعنوان (عبدالله بشارة بين الملوك والشيوخ والسلاطين) الذي حوى يوميات الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في الفترة من 1981م - 1993م. وهو كتاب يهم كل راصد وباحث ومنقب ومهتم بالتجربة الخليجية من خلال مجلس التعاون لدول الخليج العربية، حيث يجمع على صعيد واحد مادة ثرّة لم تترك شاردة ولا واردة إلا ولامستها بشكل أو بآخر. ولعل هذا الكتاب الذي تولى نشرة المركز الدبلوماسي للدراسات الاستراتيجية بالكويت هو من الكتب التي ستظل مرجعاً مهماً لذوي الاهتمام؛ لما حواه من مضامين، ولما يتميز به مؤلفه من تجربة كبيرة وقدرات شخصية أهلته ليكون أحد أبرز الشخصيات في مجال العمل الخليجي العام على مدى سنوات تفوق العقد من الزمان.
|