بات من غير اليسير حماية العقول من تلوث يجر خلفه مآسي لا تقتصر فقط على الانقضاض على الأخلاق بقدر ما تنخر في العمق حينما تكون سطوة التأثير مهيمنة على التوجه؛ إذ أن سقوط الأخلاق في اختبار الاستقامة يعد مؤشراً على وجود خلل أفضى إلى الخروج من دائرة المبادئ الفاضلة والدوران في فلك لن يستقر إلا بالهلاك القيمي حينما يلفظ الاعتدال أنفاسه، وتعبر الأخطاء جسر اللامبالاة نحو الهاوية، في حين أن الرقابة الذاتية توارت بعدما تم إضعافها بوسائل شتى، وأمسى تأنيب الضمير مجرد هاجس ليس له تأثير البتة؛ ذلك أن فصل الاعتبار عن مداره أفرز بطبيعة الحال هذا الوضع السيئ، فهي أشبه بأسلاك كهربائية متشابكة، فإذا تم فصل أحد التيارات المغذية، فإن هذا حتماً سيؤثر على الطاقة بشكل عام. والفكر في الإنسان هو مركز الطاقة، فإذا تم العبث بالفكر سواء كان ذلك بالتعطيل أو تسخير الانحراف على نحو غير متوازن، أي أن توزيع الطاقة يتم بتغذية جانب وتقويته على حساب جانب آخر، وبالتالي فإن الاهتزاز المنبعث جراء هذا الوضع سيؤدي إلى الخلخلة، وغالباً ما يتكئ نظام التغذية المفتقر إلى الاعتدال على إثارة المشاعر من جهة، وإخضاع الرغبة لعملية تجميل بائسة لا تفتأ أن تنضح قبحاً لأن الهدف ليس من الصلابة بمكان حينما تسلل واستقر في العقول المتقبلة لهذا الأمر.. بمعنى أن الضعف في تأثير القيم بات مسلكاً سهلاً لمن يمارسون هتك الأخلاق التي فقدوها. والسؤال هنا: لماذا يتم اختراق العقول بهذه السهولة؟ إذن ينبغي في هذه الحالة أن نتعامل بقدر كبير من الموضوعية إزاء هذا الارتخاء الناجم عن ضعف الصد وانكفاء الرقابة الذاتية. ولعل من أبرز الأسباب المهيئة لعبور هذه المؤثرات بشكل سلس هو نظام الاحتواء المفتقر للمرونة، أو بمعنى أدق الهيمنة الفكرية، فلم يكن الانجذاب إلا تعبيراً عن الاستقلال، فالشاب بطبيعة تكوينه حينما يبلغ أشده فإنه ينزع إلى التحرر من القيود باتجاهه إلى المخالفة ليس قناعة بها، بقدر ما يكون شعوراً بإثبات الشخصية من جهة وأنه قادر على اختراق الحواجز إن جاز التعبير من جهة أخرى، غير أنه في قرارة نفسه ليس راضياً عن مخالفته، أي أن في داخله بذرة طيبة تكره الخطأ، وتحتاج إلى العناية، والتنمية، وحينما يحرص الإنسان على زرع نبتة معينة فإنه يحرص عليها أشد الحرص، فإن سقاها فوق ما تحتاج فإنه بذلك سيهلكها، فضلاً عن ملاحظته لها وحمايتها من عوامل كالهواء الشديد، والأمطار وخلافها.. من هذا المنطلق فإن العناية بالبذرة الطيبة في قلب الشاب التي نمت أغصانها في بيئة صالحة يبيت أكثر إلحاحاً، فيما يسهم التضييق وتكرار النصح واللوم إلى نفوره وابتعاده.. امنحوا الشباب الثقة وستجدونهم أهلاً لها، أشعروهم بالمسؤولية الأدبية تجاه دينهم ومجتمعهم وسيمسي استشعارهم للمسؤولية نبراساً مضيئاً في جوارحهم؛ لأن القرآن الكريم غذى مشاعرهم، وطرق أحاسيسهم المتوقدة للنبل ونيله، سلوكاً يفيض تألقاً، في حين أن مبدأ الثقة يبيت معياراً لاتخاذ القرار الصائب، بل إنه يضفي عليه اعتداداً يشعر من خلاله بالفخر حينما رفض الخطأ بإدراك حسي ينم عن أصالة متجذرة تنحو إلى الفضيلة وتنبذ الرذيلة. ولو تتبعت كل مخالف من هؤلاء الشباب وفحصت ما في قرارة أنفسهم فإنك حتماً ستجد الاستغفار تلو الاستغفار، وما ذلك إلا شعور بالذنب، فلم تكن الذائقة لمرارة المخالفة عديمة الجدوى، بقدر ما تسلل الضعف في غفلة، استثمرها المزايدون على القيم، ونثروا أوجاعهم التي تنوء بالخطايا ليسوقوها آلاماً مبرحة، لا تبرح أن تستقر في الأجواف الغضة، الرافضة لهذه المسالك السيئة، من حيث المبدأ، لتؤخذ على حين غرة إلى غياهب الرذيلة في استغلال مقيت للظروف سمته السلب، ذلك أن المبالغة والإفراط في التوجيه قد يؤديان إلى نتائج عكسية، والأمر المؤكد أن المبالغة في الحذر ينم عن حُسن نية وقصد سليم، ألا وهو الخوف على الأجيال، لا سيما أن سطوة المؤثرات في تزايد من حيث النوع والكم، بيد أن المبالغة بهذا الصدد، تؤثر حتماً في صياغة الشخصية من حيث اتخاذ القرار، وما ينجم عنه من اهتزاز قد يؤدي إلى نتائج عكسية (ويؤتى الحذر من مأمنه)، ناهيك عن جانب رئيس يسهم في اغتيال التأثير، ألا وهو التناقض، حيث يؤدي إلى نسف المصداقية وبالتالي ينحسر التأثير ويتوارى خلف الغموض المضلل، فيما تكون المفاهيم النيرة كالصدق والصراحة والشفافية مجردة من معانيها القيمة، ومن ثم فإن الأخطاء ستشكل حاجزاً نفسياً أمام فرصة الرجوع والتوبة (وخير الخطائين التوابون). خلاصة القول أن التوازن في الطرح سيشحذ همم الشباب ويمنحهم أدواراً أكبر، بمعزل من إرهاقهم معنوياً، وهم بإذن الله أبناء بررة مخلصون لدينهم، لتنسج الثقة بالنفس خيوطاً جميلة أخاذة تبرز الوجه المضيء لتربية مضيئة تتناقلها الأجيال تلو الأجيال، إبراء للذمة وأداءً للأمانة على أكمل وجه.
|