الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد: فإن كل أمة تعتز بحضارتها التي هي عنوان تقدمها ورقيها، وإنما تستمد الأمة الإسلامية هذا التميز الحضاري من خلال معالم ثقافتها الإسلامية فهي بمثابة الأفكار والتصورات التي يبني الإنسان المسلم عليها وجوده في هذه الحياة، لا سيما وأن الثقافة الإسلامية تستمد تلك الرؤى والأفكار من مصدرين أساسيين مهمين هما: الكتاب والسنة، ثم يأتي بعد ذلك ما للأمة من تراث ومقدرات، إضافة إلى ما استفادته من تجارب الأمم الأخرى مما لا يتعارض مع تعاليم الدين الإسلامي. وإن التزام الأمة بهذا الأصل يضمن لها تقويم ثقافتها الذاتية وأصالتها على مستوى الأفراد والجماعات. وكلما ابتعدت الأمة عن تلك المصادر الأساسية، أو أخلت بشيء منها لا يمكن للأمة أن تثبت وجودها الحقيقي، إذا هي فقدت شيئاً من قيمها وأخلاقها الإسلامية، أو تناست لغتها وتاريخها في هذه الحياة. وإذا أردنا البحث عن أهم الأسباب التي تحول دون تميز الأمة في حضارتها في العصر الحاضر لتبين لنا أن من أهم ذلك تدخل عدد من الروافد الأجنبية في بناء المجتمع الإسلامي، مما يطفئ شعلة التميز والقيادة في تلك الحضارة. ومعلوم أن الدين الإسلامي جاء - والحمد لله - مهيمناً على ما سبقه من الأديان، ولهذه الهيمنة صلة وثيقة بمسألة التميز التي ينشدها المجتمع الإسلامي، الذي يرفض أن يكون تابعاً لغيره أو مقلداً و مقتبساً من حضارة أخرى فهذه الأمور إن وجدت، فما هي إلا متممات لأصول المتميز القائمة وروحه السائدة ومناهجه الثابتة. فالمأمول لهذه الحضارة الإسلامية في الحال والمستقبل أن تكون ذات قيادة مستقلة بنفسها، ومستمدة تعاليمها من القرآن والسنّة، إذا هي أرادت التميز الحقيقي، وعلى غيرها من الحضارات أن تنضم إلى مركب القيادة والتوجيه، لتكون حضارتنا الإسلامية في مقدمة الركب، وحق لها ذلك مادامت ثابتة وراسخة على قواعدها الأصولية لم تتغير أو تتبدل، إذ كيف يليق بثقافة تنتسب إلى هذا الأصل المنيع والركن الرشيد وتكون في موقع الاقتباس والتقليد. وتأكيداً لهذا المعنى يقول الله تعالى في محكم التنزل: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48)} سورة المائدة. هكذا يبين الله تعالى الخيرية التي تميزت بها هذه الأمة من خلال كتابها والتحاكم إليه ونبذ الأهواء المضللة خشية الفتنة والتفكك والاضطراب فالحق واحد وطرق الضلال متعددة، وركون كثير من الناس إلى سلطان الهوى، والبعد عن الهدى من أهم معوقات التميز الحضاري في العصر الحاضر، وما ذاك إلا بسبب الجهل بمقاصد التشريع إلالهي حتى جلب أولئك لأمتهم شيئاً من توابع الذل والانكسار، ووصفهم الله بالفسق في قوله سبحانه في سياق تلك الآيات: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}(49) سورة المائدة. وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد ميز هذا الإنسان عن غيره من المخلوقات بهذا العقل البشري الذي يعرف به الحق والباطل، والخير والشر، فإن هذا العقل يحتاج إلى الغذاء المناسب حتى يعطي وظيفته على الوجه الأكمل، وهذا الغذاء يستمد من القيم الحقيقية لثقافتنا الإسلامية وأصولها المباركة، لينعكس أثر ذلك على التميز الحضاري لهذه الأمة وواقع حياتها العملية، فيكون المجتمع مجتمعاً تسوده روح المحبة والتعاون والقيم الفاضلة، وتلك خصوصية لثقافتنا الإسلامية، وينبغي أن يوجد هذا التميز وتلك الخصوصية في كل وقت، فلا تحد بزمان معين؛ لأن رسالة الإسلام رسالة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وعامل الثقافة الإسلامية عامل مهم جداً في رسم المنهج السليم لحضارة الأمة؛ لأنها قلبها النابض ولباسها المنيع الذي يحميها من زيفها وضلال الحضارة الغربية. ومن هنا تدرك أن الثقافة الحقيقية التي لها أثر في بناء حضارة الأمة ثقافة واحدة وهي الثقافة الربانية التي تستمد رسالتها من الوحي الإلهي وفيها سعادة البشر، وما عداها فهي من الجاهلية الأولى التي همها النهب والاستعمار، كما هو الحال في الاستعمار الغربي الذي من أهم أهدافه: زعزعة العقيدة الصحيحة في نفوس المسلمين؛ إدراكاً منه أن التمسك بالعقيدة سبب بناء الأمة المسلمة، وزعزعتها وتحطيمها في نفوسهم سبب لتدميرها. والواقع اليوم يشهد لذلك، فنحن نرى آثار الاستعمار في تلك الأجيال المسلوبة الإرادة، بل منها من فقد هويته حتى صار تبعاً لغيره عاجزاً عن تحقيق شخصيته المسلمة، وهذه نتيجة حتمية لكل مجتمع يفقد ثقافته الأصيلة. ولا أحد ينكر أن واقع ثقافتنا اليوم يحتاج إلى مزيد من العطاء ممن ينتسبون إليها من رجال الفكر والأدب بحيث نحقق الاكتفاء الذاتي الذي يحفظ لنا كيان تلك الثقافة. ولنجعل من الشعوب التي فقدت قيمها وأخلاقها خير دليل على تأثر الحضارة بالبعد عن معالمها وأصولها التي تبنى عليها، مما يجعل هذا التأثر السلبي يصيب الأمة بالخلل في حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا هو سبب التأخر الحضاري لدى أمة من الأمم. ولقد كان من نتائج الخروج عن أصول الثقافة الإسلامية والعربية أن انهار أكبر حصون التحصين الثابتة في المجتمع مما حدا بالمجتمع إلى أن يعيش فترة من الجمود والتعطيل؛ لكونه وقع بين فكين أحدهما حضارة غربية مستوردة والآخر عامل أصيل متجمد, ومتى استمر الوضع على هذه الحال فإن عملية النهوض بثقافة الأمة تكاد تكون مستعصية ما لم يهيئ الله لها من يأخذ بيدها من مفكري الأمة أصحاب العقول الراجحة الذين يعرفون للحياة المطمئنة قيمتها. ومن مظاهر التقدم الحضاري الذي يشهده المسلم ما يتعلق بأنواع التقنية الحديثة المعلوماتية التي بدأت تنتشر في كل قطاع أو مؤسسة، بل وعلى مستوى الأفراد حيث أصبح لا غنى للفرد عنها اليوم لتنظيم حياته وأولوياته، إضافة إلى أنك تجد الكثير ممن كانوا يسكنون البوادي ويمارسون الحياة البدائية قد تولوا عدداً من المناصب التي تؤهلهم لتغيير أنماط السلوك في المجتمع وفق الشريعة الإسلامية بعيداً عن عادات وتقاليد الجاهلية الأولى. فعلينا أبناء هذه الأمة المسلمة أن نسرع إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من جوانب حضارتنا اليوم، ونأخذ بها إلى شاطئ الأمان بعيداً عن عوامل الغزو الفكري الثقافي، وما أكثره اليوم، بل التنافس فيه قائم على حساب ثقافتنا الإسلامية. وإن مما يعين على إنقاذ تلك الحضارة في ظل قيمنا الإسلامية وفق متطلبات العصر أن نسلك مسلك التوسط والاعتدال في التعامل مع تلك القيم والمبادئ. إذ إن التطرف والغلو من أشد العوامل فتكاً بحضارة الأمة، وإنزال أنواع الذل والهوان التي تصيب العباد والبلاد. وما نشأ ذلك الغلو وذلك التطرف إلا بسبب القوى الداخلية التي ابتعدت عن عقيدتها مما سهل للاستعمار السيطرة والهيمنة على مقدرات الأمة؛ حتى فقدت الكثير من معالم حضارتها الإسلامية حين أراد الاستعمار طمس تلك المعالم. وما أن أحست الأمة بالخطر القادم الذي يهدد حياتها وحضارتها حتى اتجهت إلى نزعة جديدة شغلتها عما هو أهم ألا وهي النزعة المادية. ومن هنا غاب معظم القيم من حياة الأفراد والمجتمعات، ولم تعد حياتهم قائمة على أي نوع من التعالي والمثالية. فأملنا في ثقافتنا الإسلامية اليوم أن تأخذ بزمام الحضارة إلى الأمان بعيداً عن مظاهر الفوضى والانحراف، وأن لا تترك مجالاً لتلك القوى المادية لإشباع رغباتها على حساب قيمنا وأخلاقنا التي هي عنوان حضارتنا الإسلامية. وأن نكرس جهدنا في سبيل الحفاظ على مقدراتنا التي أساسها وحدة الإيمان والعقيدة الصحيحة بعيداً عن الطغيان المادي الذي يفقد الإنسان إنسانيته، ومتى بنى الإنسان حضارته على قيمه وأخلاقه الإسلامية فإن هذا البناء لن يقهر بإذن الله وسيظل شامخاً إلى الأبد في مواجهة التبعية من أجل تميز حضاري مرموق لا يتغير ولا يتبدل.
|